محمدخيرعوض الله يكتب….تحت الشمس:دور الصوفية في تعزيز القومية السودانيّة

by شوتايم2

 

 

 

 

تحت الشمس

بمناسبة الزيارة السنوية للكريدة
دور الصوفية في تعزيز القومية السودانيّة
محمد خير عوض الله

تعتبر الدولة السودانية المعاصرة، جسم حديث التكوين، حيث كان اسم السودان يطلق على رقعة جغرافية واسعة، تشمل أقاليم من بلدان مجاورة لدولة السودان الحالية التي تكونت حديثاً مثل بقية البلاد العربية والإفريقية على إثر تطورات سياسية وعسكرية للدول الأوروبية(الحرب العالمية الثانية) مكّنتها من تقطيع وتوزيع الأرض على النحو السائد اليوم، وبالتالي، وعوداً على بدء، فإنّ الدولة السودانية المعاصرة حديثة التكوين، لاتزال بحاجة إلى جهود كبيرة لتعزيز القومية الموحّدة، في ظل وجود قوميات إثنية محليّة في شتى أنحاء القطر، وتعتبر مؤسسة المسيد، وحركة التصوّف، واحدة من أبرز وأهم عوامل صهر القوميات والإثنيات في قومية موحّدة. انخرطت النخبة الوطنية الأولى في تنفيذ سياسة السودنة، وكانت عوامل كبيرة تعمل بقوّة في صهر الإثنيات والقوميات المحليّة في قوميّة موحّدة، من هذه العوامل (الخدمة المدنية) التي ورثتها النخبة الوطنية من حكومة الاحتلال البريطاني، وهي تحتكم لنظام إداري قوي ومُحكم، يأتلف من مجموعة قوانين ولوائح وشروط عمل ومنهج إداري متكامل، يدار مركزياً، لذلك نجد في ترجمة كثير من قادة المجتمع في السياسة والثقافة وغيرها من المجالات، أنهم طافوا معظم مدن وقرى وأرياف السودان المختلفة، لأنّ ربّ الأسرة ملزم بقانون ولوائح العمل وكشوفات التنقلات المركزية، التي تصدر وفق حيثيات منها افتتاح فرع أو مكتب جديد، أو بسبب ترقيات أو استبدال قيادات وانتقالها،.. الخ. ذات الأمر في الخدمة المدنية، ينطبق في الخدمة العسكرية بشكل أكثر قوة ووضوحاً وصرامةً. نجد تنقلات الخدمة المدنية والخدمة العسكرية لم تسهم فقط في صهر القومية في جوانب فوقية شكلية، كلا، إنما أفرزت رموزاً أدخلتهم في مجتمع القرية، ذلك باندماج موظفي هذه المؤسسات مثل البوستة (البريد والبرق لاحقاً) والشفخانات، الحكيم باشا (المساعدين الطبيين) والمعلمين، والضباط الإداريين، وقادة ومنسوبي الحاميات العسكرية، وقادة ومنسوبي مراكز الشرطة.. الخ، جيوش جرارة من العاملين بالدولة ينصهرون في قومية موحدة، وقد تجلّت ترجمة ذلك في مئات الآلاف من المصاهرات والتزاوج خارج الموطن وخارج القبيلة، فتعززت القوميّة الموحّدة بشكل كبير، في مجتمعات محكومة إدارياً بنظامين اثنين، نظام مؤسسة التصوّف، ونظام الإدارة الأهلية، وهما نظامان قويان، حيث تكون (الإرادة الجماعية) منضبطةٌ، ومسيطرٌ عليها، ففي النظامين تسليم اجتماعي وروحي، تحكمه أعراف وقواعد ناظمة وضابطة، وكلها باذعان داخلي تكتنفه محبة واحترام وتقدير وتسليم ادبي ووجداني يجعل المجتمع يعيش في دفء وسلام واطمئنان، لأنها قوانين محبة لا نصوص إكراه مفروضة من أحد. كان القطار كذلك احد أهم عوامل صهر السودانيين في قومية موحّدة، كذلك المشروعات الكبيرة، مثل مشروع الجزيرة الذي ترجم عملياً عملية الانصهار هذه.
في الواقع اليوم، غابت كثير من هذه العوامل قبل أن يطمئن الشعب السوداني لمشروع (القومية) أو قل: قبل أن تتم عملية (تربيط الصواميل) فأصبحت (القوميّة الموحّدة) تعاني من غياب عوامل (تعزيز التماسك النسبي الموجود) ، وفي موازاة ذلك، ومن أسف، تكاثرت دعوات تفتيت الوحدة الواهنة، وتقطيع أو اضعاف الحبال القوميّة القويّة مثل (الإذاعة القومية، التلفزيون القومي، السكك الحديدية، مشروع الجزيرة، المؤسسة العسكرية، الشرطة، الخدمة المدنية،.. الخ).
جالت في خاطري كل هذه المخاوف العظيمة التي تهدد (القومية الموحدة) والتي أصبحت في حالة من الوهن، وأنا عائدٌ من الزيارة السنوية للكريدة (بدأت يوم السبت 12 فبراير 2022م واستمرت لمدة ثلاثة أيام) وهي واحدة من تجليات حركة التصوف في السودان، حيث بدأت هذه الزيارة لأول مرة في عام 1905م من سيدي الولي الكبير الشيخ محمد وقيع الله محمد أبي بكر (1865م – 1944م) قام بها وأتباعه، إلى شيخه وأستاذه الذي أجازه في الطريق، الشيخ الولي، عمر محمد عبدالله الصافي (راجل الكريدة) إنّك حين ترى الجموع الغفيرة والوفود تتقاطر من كل أنحاء السودان، من كل قبائله وإثنياته القبلية، وتكويناته السياسية والثقافية والاجتماعية المتباينة، كلهم ينصهرون في بوتقة واحدة، تجسّد قومية دينية واجتماعية موحدة، تقول: الحمد والشكر لله.. فإذا انقطعت معظم الحبال القومية القوية المؤثرة، فإنّ حبل أهل التصوّف لن ينقطع إن شاء الله، يندرج في داخله أهل السودان بكل سحناتهم وإثنياتهم.
كانت الزيارة يقوم بها الشيخ محمد وقيع الله، ثمّ واصل مواظباً عليها قطب الزمان، الغوث الكبير الشهير، سيدي الشيخ عبدالرحيم البرعي، مواصلاً رسالة ومسيرة أبيه، كان أبوه عالماً في الفقه و التفسير والحديث والسيرة، كان يعالج كل الامراض، من الجنون وحتى العمليات الجراحية، وبعد انتقاله في العام 1944م جلس ابنه سيدي الشيخ عبدالرحيم وقد تشرّب من كل انهار العلوم والمعارف الظاهرة والباطنة، فتكاثر المريدون من كل فجاج الأرض، وانصهرت في كنفه الإثنيات والقوميات، حتى أصبحت زيارة الوفاء السنوية حدثاً كبيراً، ومظهراً فريداً من مظاهر صهر القومية السودانية، وأصبحت برنامجاً تُضبَط على توقيته المواقيت، مثل إجازات المغتربين والعاملين في الداخل، وكذلك مواسم وبرامج التجار والزراع والناس عموماً، رجالاً ونساءً، ومن كل اتجاهٍ. تتكون الزيارة من ثلاث محطات رئيسة، هي الكريدة حيث الولي عمر محمد عبدالله الصافي (1837م – 1933م) وهو أستاذ وشيخ الشيخ محمد وقيع الله. ثمّ (شبشة) حيث العارف بالله الولي الكبير والغوث الشهير الشيخ برير ود الحسين (انتقل 1885م) وهو أستاذ وشيخ الشيخ عمر راجل الكريدة. ومن شبشة إلى (خور المطرق) حيث ترجمان الاذكار وخازن الأسرار (الحاز السر) سيدي الشيخ برير الشيخ الصديق محمد عبدالله كرفس (المتوفى 1968م)، وهو حفيد الغوث الكبير الشيخ برير ود الحسين. هناك حيث تلتقي الجموع في ضيافة خليفة المقام، صاحب الولاية الكبرى، ووارث الغوثية، خادم الجناب المحمدي سيدي وقرة عيني الشيخ الطيب الشيخ برير الشيخ الصديق (المولود 1968م أطال الله عمره ونفع بعلمه ومدده) ، وهو الذي يتقاصر كرم الطائي دون كرمه، ولايعرف الناس بينهم اليوم من هو في همّته، أو جوده و جهده، حيث شمّر منذ أكثر من عقدين، يحمل أحمالاً ثقيلة، تنوء بحملها الجبال، ينشيء المجمعات الإسلامية في كل ولايات السودان، يشتمل المجمّع الواحد على المسجد والمسيد، واستراحات الضيوف وسكن الطلاب، ومدرسة أساس، ومستشفى بكامل تجهيزاته لكافة التخصصات، وهكذا يفيض المسيد نوراً ونفعاً للفقراء والبسطاء، ملح الأرض وأحباب الحبيب. والشيخ الطيب صاحب المبادرة المجتمعية التنموية الضخمة، والقوافل الطبية المتجولة، يخرج بالمسيد من نطاقه الجغرافي المحدود، إلى آفاق اختصاصه المفتوح (خيراً ونفعاً) ،و له زيارة سنوية، يخرج في الآلاف من أتباعه، كل عام يردون التحية بمثلها وبأحسن منها، حيث يتقاطر الآلاف في ازدحام سنوي، نحو الزريبة، حيث يستقبلهم العالم العلامة الولي الكبير سيدي الشيخ الفاتح الشيخ البرعي، حيث تخرج الزريبة عن بكرة أبيها خارج مدينة البرعي يستقبلون المواكب والحشود (عشرات المركبات) وقد شقت الصحراء وكثبان الرمال (إخوان في الله.. مابشيقني غيرم) كما ذكر الراوي سيدي الشيخ الطيب نفسه وهو يرى الحشود وهم يحلقون باجسادهم وأرواحهم، لامطلب ولامرغب ولامرهب.. وهو يردد: (ليم الخبرا.. إخوان في الله.. صلحوا الفقرا.. مابشيقني غيرم). منذ أكثر من قرن، أصبحت الزيارة السنوية بين أقطاب التصوف في السودان، أدباً راكزاً، تتكفل وتحتفي به مؤسسة التصوف، منها الزيارة السنوية لسيدي الولي الكامل الشيخ محمد أحمد عبدالله أبوالحسن الشهير ب (أبو عزة) الذي شيعه آلاف الحفظة والمحبين في أغسطس من العام الماضي، بعد رحلة 77 عاماً متواصلة فقط في تحفيظ القرآن، حيث أسس مسيده بإذن الله وتوجيه أستاذه الشيخ عبدالله بن العباس زيدان في أم عشرة ريفي ودعشانا بقرى شمال كردفان، ومن هناك تنطلق زيارته السنوية لشيخ شيخ شيخه الغوث الكبير سريع النجدة الشهير محمد التوم ود بانقا بسنار (المتوفى 1268 هجرية – 1853م). وهي زيارة محشودة محفودة ينتظم فيها، وينتظرها المحبون والمريدون كل عام، وقد حدثت كرامة مشهورة في زيارة الوداع الأخيرة للشيخ أبوعزة، حيث استقبلهم و ودّعهم سيدي الشيخ التوم ود بانقا والقبّة داخل الضريح فقط تهطل أمطاراً فجعل البعض يبكون بكاءً حاراً والبعض يغتسلون بالماء تبركاً.. وربما قليلون فطنوا لأنها الزيارة الأخيرة للشيخ ابوعزة. ومن الزيارات المحشودة المعروفة، زيارة سيدي الشيخ العبيد الشيخ الحاج موسى الشيخ الطيب الشيخ برير ودالحسين من شبشة إلى الشيخ التوم ودبانقا بسنار.
وغير الزيارات، تتجلى جهود الحركة الصوفية في تعزيز القومية السودانية، من خلال المناسبات الكبرى، ففي الحولية السنوية بسنكات، للختمية والسادة المراغنة بمناسبة الذكرى السنوية للسيدة ست مريم الشريفية (المولودة 1287 هجرية) تنصهر إثنيات الشرق العديدة، والاثنيات المجاورة من خارج الحدود، من إثيوبيا واريتريا، فضلاً عن حشود المحبين والمريدين من شمال ووسط السودان وسائر الأنحاء.
كذلك الحولية السنوية للطريقة القادرية العركية بأبي حراز شمال مدني، وحولية طابت الشيخ عبدالباقي.
والحولية السنوية (الرجبية) للولي الكبير والقطب الشهير السيد عبدالباقي المكاشفي (1867م – 1960م) التي يحتشد فيها
السادة المكاشفية في الشكينيبة ويؤمها الآلاف من المحبين والمريدين من داخل وخارج السودان، وتصنّف على أنها من أكبر المناسبات المحشودة، حيث يبرمج الآلاف مواقيت إجازاتهم والتزاماتهم على موعدها. وهناك عدد من الحوليات الكبيرة عند سلطان الأولياء سيدي الشيخ إدريس ود الأرباب (1507م – 1650م). كذلك خلاصة أهل العرفان، على مر الدهور والأزمان، حامي حمى السودان، ووارث الغوث السمّان، القطب الكبير، والغوث الشهير، سيدي أحمد الطيب البشير (1742م – 1823م)، وكل فروع الأسرة الطيبية المباركة، في أمرحي وفي ودنوباوي (الشيخ قريب الله) (الشيخ الفاتح) وفي طابت الشيخ عبدالمحمود، وطابت الشيخ السماني، وغيرها، والأسرة الطيبية صاحبة إشعاع روحي كثيف في كل السودان، تجنى ثمراته الحالية الدانية في كردفان الزريبة والنيل الأبيض في شبشة والكريدة وخور المطرق والعرشكول، وسيدي الشيخ التوم في سنار وفي غيرها. وفضل الأسرة الطيبية على أهل السودان عظيم بإدخال الطريقة السمانية أكبر الطرق في السودان. وكذلك من الحوليات التي تنصهر فيها القومية السودانية عند سيدي الشيخ محمد ودبدر (1811م – 1884م) وسيدي الشيخ الياقوت وغيرهم كثير من الأقطاب، أوتاد الأرض، وغمامات الخير الهطولة.
وهكذا تعاظمت جهود كل أهل المقامات في تعزيز القومية السودانية، وهم في حال التوعية والتزكية والتربية المجتمعية بالفكر الإسلامي، وتعميق معنى (الدين المعاملة) ومن خلال السلوك والقدوة جذبوا الناس وجعلوهم يتناسون تكويناتهم وعصبياتهم الاجتماعية والقبلية المختلفة لينصهروا جميعاً في بوتقة واحدة تحت راية التصوّف.
ويمكننا القول إنّ مؤسسة المسيد، ومدرسة التصوف، ربما وحدها التي لاتزال تشد الحبل المتين، في صهر القومية السودانية وتعزيز التلاحم بين مكونات المجتمع المختلفة، (إخوان في الله.. مابشيقني غيرم).
نسأل الله أن يرفع سادتنا أبواتنا واقطابنا وأغواثنا أولياء الله الصالحين المصلحين، الذين نذروا أنفسهم لله، بنشر الدين وإصلاح الخلق، ونسأل الله أنّ يبارك جهودهم العظيمة في تعزيز التلاحم والترابط بين الناس، ومعالجة مشكلات الأسر والأفراد، فهم بيننا يبذلون أعمارهم دون كلل أو ملل في إصلاح المجتمع وخدمة الناس.

Leave a Comment

1 × اثنان =