قد تسكت أصوات الرصاص، ويختفي عن الآذان دوي المدافع، ولكن تبقى للحرب آثار تأبى أن تنمحي من نفوس من عايشوا ويلاتها، وفقدوا في رحاها الأعزاء، وقد تكون الحرب رغم مرارتها نقطة توقف ومحطة إلهام للكثيرين، منها ينطلقون متحدين عذاباتها. ولعل لمياء واحدة من أولئك، حيث تجرعت مع أسرتها الصغيرة مرارة الحرب وفقدان الأب.
تفتحت عيناها من دون أن تبصر والدها، وتلعثمت وهي تتعلم النطق من دون أن تنطلق بكلمة (بابا)، إذ فرضت المعارك في دارفور غربي السودان على والدها أن يتركها، وهي رضيعة لم تكمل الأربعين صباحاً بعد، لتتولى والدتها راحيل إبراهيم إدريس المهمة.
خرج صلاح الدين آدم أبو زيد من مدينة مليط مع بداية التمرد، الذي اندلعت شراراته في الإقليم، ملتحقاً بحركة العدل والمساواة، تاركاً طفلته لمياء وعمرها حينها أربعين يوماً، ولم يلتق بها إلا بعد عشرين عاماً. تركها رضيعة، ليجدها بعد سنوات من الحرمان فتاة جامعية، ترسم بعناية مستقبلها لعلاج جراحات الحرب، بعد أن اختارت أن تكون طبيبة.
وجهاً لوجه
وها هي الحرب تضع أوزارها في الإقليم، الذي طالما مزقت الحرب أوصاله بعد، ليجد الجنرال صلاح الدين آدم أبو زيد القيادي بجيش حركة العدل والمساواة السودانية نفسه وجهاً لوجه مع فلذة كبده لمياء، التي عاشت مع أمها في منطقة مليط، والآن هي طالبة في جامعة الفاشر.
يقول أبو زيد وهو يغالب دمعات سقطت من عينيه عنوة: «أنا فخور بأن أجد ابنتي طالبة جامعية، أمضينا كل تلك السنوات وكنا صابرين وموقنين بأن ساعة النصر قادمة»، أنا أشد فخراً بوالدتها، التي ظلت صامدة وناضلت في غيابي بتربية لمياء حتى بلغت مرحلة الجامعة.
لم تتمالك لمياء نفسها وهي تعانق والدها لأول مرة في حياتها، تقول: «أنا سعيدة أني التقي والدي بعد فترة حرمان طويلة، لا أستطيع أن أصف سعادتي، أشكر أمي، فهي إنسانة صامدة، وهي التي كانت تدفعني للأمام رغم غياب الوالد، لتحقيق أمنيتي بأن أصبح طبيبة»، وأضافت: «أقول لأبي أنا فخورة بك وأنت إنسان تناضل من أجل الوطن».
يعلق الصحافي المختص في قضايا دارفور عز الدين دهب: «مقياس نجاح وقف الحرب لم يكن بالمكاسب المادية، ولا الوظائف والنياشين والدبابير، بقدر ما زرع السلام الابتسامة في قلوب تفطرت حزناً»، دهب كتب على صفحته ب«فيسبوك»: «إن قضية صلاح الدين، الذي اختار درب النضال، وترك أسرته الصغيرة، تؤكد أن الحرب دوماً ما تقسو على النساء والأطفال فهم الضحايا