ألجمتني الدهشة، وأنا أطالع بياناً من وزارة الخارجية السودانية رداً على بيان إثيوبي، بخصوص ما يحدث على الحدود.
مصدر الدَّهشة والتعجُّب، البيان كُتب بصورة غريبة وغير مسبوقة في البيانات الرسمية خاصة الدبلوماسية.
بدا البيان كأنه خطابٌ عاطفيٌّ بين عاشقين تختلط فيه الشكوى والعتاب بالغضب وخيبة الأمل
أو هو أقرب لمقالٍ مُرسلٍ على بريد صحيفة يومية من كاتبٍ مُبتدئ يبحث لقلمه عن موطئ حرف..!
-٢-
لا يغيب عن أحدٍ أنّ البيانات الرسمية وخاصة الدبلوماسية منها، من المُفترض أن تُكتب بصورة احترافية دقيقة.
تُكتب البيانات الرسمية بحساب الكلمات، والجُمل الجامعة والمانعة، ومعرفة الظلال والدلالات مع ضبط السياق.
هذه بديهيات أولية بسيطة، ما كُنّا نفترض أن تقدم لدبلوماسيين في مقدمة شروط تأهيلهم معرفة ذلك وأكثر!
-٣-
قبل أن نعلق على ذلك البيان الربك، جاءت إفادات وزيرة الخارجية دكتور مريم الصادق، في زيارتها الأخيرة للقاهرة، لتضيف مزيداً من القلق على واقع العمل الدبلوماسي.
لا يُشكِّك منصف في مقدرات دكتورة مريم السياسية وملكاتها الخطابية.
لكن ما تحتاج إليه المنصورة في منصبها الجديد أكثر مما لديها من معرفة وخبرة وتجارب.
العمل في أجهزة الدولة ذات الحساسية العالية، يحتاج لتدريبٍ وإعدادٍ خاصٍ، يختلف عن ما يُتيحه العمل الحزبي.
في كثير من الدول القريبة قبل البعيدة، تُوجد مراكز لإعداد وتأهيل القيادات قبل مُباشرتهم العمل التنفيذي.
-٤-
في دول مثل مصر وقطر، تُعقد دورات قصيرة ومكثفة للوزراء والناطقين الرسميين في بداية تولِّيهم المناصب.
دورات عن طبيعة عمل الوزارة وثقافة المُؤسّسة وأعرافها وملفاتها وعن البروتوكول والتعامُل مع أجهزة الإعلام.
للأسف، كثير من السياسيين يستنكفون عن الجلوس أمام أهل الخِبرة والاختصاص لتلقِّي تلك الجُرعات التأهيلية.
فهم يرون في ذلك انتقاصاً لمقدراتهم وتشكيكاً في كفاءتهم ومساً لكبريائهم السياسي.
-٥-
كان مُثيراً للاستغراب، شروع عدد من الوزراء في إطلاق تصريحات صحفية وتغريدات اسفيرية، قبل جلوسهم على المقاعد.
الوضع الطبيعي، أن يتمهَّل المسؤول في إطلاق التصريحات، وإجراء المُقابلات المُطوَّلة إلى ما بعد جلوسه في المقعد والوقوف على أحوال المؤسسة، التي يجلس على رأسها والاستماع لمرؤوسيه.
بل الأفضل أن يبتعد عن الإعلام قبل أن يُرتّب أوراقه ويُحدِّد أولوياته.
-٦-
استسهال الظهور الإعلامي دُون إعدادٍ وترتيبٍ واستعدادٍ مُسبقٍ، يجرُّ كثيراً من الأخطاء على المسؤول، وقد يضعف صورته أمام الرأي العام بتشكيل انطباع سالب.
الإعلام الآن لم يعد اجتهادات شخصية، تُخطئ وتُصيب، ولا مقدرة على الحديث المُنمِّق دون أخطاء نحوية وتعبيرية.
الإعلام – خاصّةً المرئي منه – علمٌ له قوانين وأسس تُحسب بالكلمة والعبارة وظلالها، مع قراءة لغة الجسد وحركة العيون ونبرة الصوت وإيماءة الرأس.
بإمكان مُخرجٍ مُتحاملٍ أن يختار لقطاتٍ وزوايا تُعطي انطباعاً نقيضاً لما يريده المُتحدِّث، تُظهر الارتباك وعدم الثقة وربما تفضح الكذب.
باستطاعة مُحاوِرٍ مُتمرِّسٍ، استدراج المسؤول لقول ما لا يُريد قوله ووضعه في مكان يسهل انتياشه منه.
لذا، هناك كورساتٌ تأهيليةٌ تعدها كثيرٌ من المراكز المُتخصِّصة للمسؤولين في كيفية التعامل مع أجهزة الإعلام.
-أخيرًا-
نعم، ليس مطلوباً من المسؤولين معرفة كل ذلك، بكل هذه التفاصيل، ولكن من واجب مستشاريهم ومعاونيهم تنبيههم وإرشادهم لما يحفظ صورتهم ويصون سيرتهم من السخرية والاستهزاء