مدن بعد الموت …
ظللت أردد بصوت هامس “يارب ألطف بنا..!!”
أخبئ رأسي تحت غطاء البدلة المطاطية البرتقالية المخططة بالابيض الفسفوري لكيلا يعلم من حولي أني كنت
أبكي . كانوا يتحدثون بلغات مختلفة ، شباب تشادي بالجوار يتحدث بلغة هي فرنسية بلهجة أفريقية بأصوات
أجشة وتتعالى في توتر خفي لم استسغه، أحدهما كان يلصق مؤخرته بفخذي من ناحية اليمين بصورة مؤلمة
، على كل حال هو مضطر لأن يفعل ذلك بسبب الزحام، فالقارب رغم صغر حجمه كان يحمل على سطحه
أكثر من مائة شخص، وهنالك أمامي مباشرة طبيب يتحدث بلغة انجليزية متعالية، كنا نسميه في الزاوية
)الخواجة( لحديثه المتكرر عن لندن و جمال عراقتها وعجرفة الانجليز التي يحلو له تقليدها ويبررها بعلمهم
وتفوقهم على بقية عباد الله في كثير من ضروب الحياة، و كثيرا ما كان يعزز فكرته تلك بقوله )يكفي أنهم
كانوا مستعمرين لبلداننا وتعلمنا منهم الادارة و القانون والطب وغيرها(، الزاوية مدينة مليئة بالأحداث، التناقض
لا ينكره الناس، يعيشونه، و لا يدهشهم، المدينة التي وصلناها منهكين و خائفين فطمأنتنا ثم زادتنا خوفا ،
رفعت رأسي باحثا عن صديقي ” حتو” ذلك الصومالي الأسمرالمسكون بالبحر، عن طريقه تعرفت على
أصحاب القارب هذا وتوسط ليخفض لنا مبلغ الرحلة، كان يعمل لدى سماسرة التهريب بالعمولة، عن طريقه
تم سفر الكثيرين، يحب السودانيين ويقلد لهجتهم بصورة مضحكة، كان يتباهى بفكرته الغريبة عن أنه جاء
نتيجة لرحلات أبيه البحار الطويلة عبر القارات، وكيف أنه ألتقى بأمه في الاسكندرية وتزوجا ليجئ الى الدنيا
حاملا رسالة الإبحار، درس في الأكاديمية البحرية بالاسكندرية ليكون قبطانا، لكنه لم يجد فرصة عمل الا
صبيا في مخرطة صغيرة، مات صاحبها و طرده أبناؤه المتشاكسون، كان فيلسوفا بطريقته الخاصة يقرأ كثيرا
كتب البحر، حدثني عن ارنست همنغواي وحنا مينا اللذان كانا يعشقان البحر ومثلت الأمواج المجنونة الفضاء
الإبداعي لمعظم روائعهم، وحدثني أيضا عن مردوخ و ساندرا فهو يحفظ كثيرا من قصص البحارة، كان الكابتن
صديقي المحبب منذ ان دخلنا ليبيا، عبر الحدود فهو يعرف جميع المهربين، كنت استمتع بحكايات البحر
والبحارة المسكونين بالرحيل والإنتظار لما تجلبه المدن الملحية من نساء ومغامرات، حدثني عن مدن ساحلية
كثيرة حول العالم، كان يحفظها كظاهر يده، حدثته عن الصحراء التي أتيت منها، ثوراتها، قصص الرمال
المحرقة والمتحركة، عن هوامها وأساطيرها وقيمها المجتمعية القاسية، عن تاريخها وسيرة من عرفت من
أهلها، كنت لا اتحرج من إبداء بداوتي له، فهي الآن تمثل هويتي في هذا العالم الذي انمحت فيه معالم الأشياء،
حدثته بما وصفه ابراهيم الكوني في عالمه السردي المسكون بأساطير الصحراء وقيم العرب والطوارق
والبربر، حدثته عن فلسفة الصحراء، عن مذلتنا بعد أن تنكرنا لقيم الصحراء ، فإنسان الصحراء مسكون
بالتأملات ، ربما لهذا كانت الرسالات السماوية تجئ في الصحارى، وأن الله اخرج شعبا بأكمله ليتيه في
البراري، غياب معالم مكان، يجعل التأمل بديلا للواقع، ففي الصحراء نستطيع أن نزور الموت ونعود أحياءا
من جديد، فالرمال الصفراء الممتدة هي مكان لا كالمكان، هي حبل مشدود للترحال، تحرم الإستقرار فيها،
وتدفعك دفعا للرحيل المستمر، الرحيل الى الأبد، حتى تصبح حياتك في هذا المرحال الممتد عبر الزمان والمكان
لتكون الحكايات هي زاد السفر والسحر والأسطورة هي محاولة تفسير هذا الرحيل الذي لا ينتهي لذا الرمال
الذهبية تلك هي التي شهدت الأفكار العظيمة التي تستنير منها الإنسانية حتى يوم الناس هذا، وأنشأنا المدن التي
نبتت في رمالنا كنباتات الخبيثة، سرعان ما تشابكت و تشعبت، غرس أسمنتي غريب لا ينتمي الى الرمل، غابة
الأعمدة الحديدية و تلاصف النيون ليمنح الطرقات لون خادع بأن الأرض ماكانت للبدو يوما، طرقات جعلت
البعير يستوحش الأرضية المرصوفة بالأسفلت ويشعر بغربة مثل غربتي على الماء، والمدن التي ستحتويني،
إن لم يبادر هذا البحر العظيم بضمي وإطعام قاطنيه من جسدي، حدثته عن فلسفة التحديق في الأبدية، والمشاريع
الكبرى التي أنتجتها الصحراء، كان كثير الكلام لكنه يستمع بتهذيب عال، حدثني بأنه ينوي الإستقرار”بعد
رحلة الموت هذه” في السويد، أو في ايطاليا، شجعته على فكرته تلك، فأنا لم أكن اعرف الى اين اتجه ولكني
أعرف مم اهرب، بقية الركاب كانوا من أفريقيا المجنونة، الكنغو، الكاميرون، اثيوبيا وأسرتان سوريتان رأيتهما
يركبان معنا في الشاطئ، كانوا بائسين مثل الأرامل، لفظتهم الحرب في دير الزور او درعا أو ريف حماة
وغيرها من المحطات الحزينة في رحلة وطن نحو الهاوية، كانوا يبتسمون رغم كل شئ، يخبئون الأمل البائس
الذي يحدونا دون مبرر منطقي سوى الفرار من اليأس القاتل الذي نعانيه. كان جو القارب رغم الموت الوشيك
و كانوا يحدثونني بأني هانئ لا يشغلني هم ولا غم، الحمد لله سابل الستر على عباده المثقلون.
لم يكونوا يعلمون بأن الألم خلق من طينتي، أو أنني خلقت من طينته، كنت ترابا فمزج بالدموع الحارقة و كنت
أنا، فأنا و الحزن لا ننفصل عن بعضنا، لا حياة لأحدنا دون الآخر، لكني يروق لي أن أبدو هازئا لا مهموما ،
الحزن ينتشر في الفضاء لتعم غمامته المقيتة تلك و تكفهر من هولها الوجوه والقلوب والعقول، سمعت في الأثر
أن أحدا إستغاث الله في الصحراء فسمع الملائكة قرقعة على السماوات وتباروا لإغاثته، يا مغيث أغثنا .. أغثنا
اليوم عندي حالة عابرة تتخلل الراتب اليومي والهمهمات المحمومة بالفرج ، الستر، الشفاء، الحفظ من العين
والحسد والسحر والدجل، وكيد الأقارب والأباعد
“أعوذ بك من همزات الشياطين، و أعوذ بك رب إن يحضرون”
آية الكرسي، الإخلاص، الفلق و الناس ، اللجوء الى الله أمان و سلام روحي، لطف الله الخفي من فواجع القدر،
رب اشرح صدري ويسر أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، العمر مضى، سنون تقاذفتنا، مشينا في
مناكبها، مدن ساقتها لنا سلاسل القدر القوية لتسكننا وتحملنا في أحشائها، مهاجرين، خائفين، نبغي خلاصا
مستحيل ممن نعلم ومن لانعلم، خلسة سرقنا الزمان حتى نبهنا الشيب بزحفه المقدس، شيبة وحيدة بدت في
سالفي، أنكرتها ونزعتها لألقيها متجاهلا نداءها الخفي، فأتي الشيب كثيفا لينصر تلك المنزوعة ، ويعلن بياضا
على صفحة السالف المطمئن بوداع صباه الغرور، لا زلت أذكر كيف لفظني البحر الى هذه الأرض البعيدة،
حافيا كنت أمشي على حافة الماء المضطرب، بعد أن رميت حقيبتي اليتيمة تلك في جوف البحر لتخف حمولة
القارب المكتظ، بعد توقف محرك القارب في عرض البحر.
صوت الصومالي قائد المركب يعلن الخبر على الملأ بصوت فظ:
– توقف المحرك..!
سب الرب، ولعن القدر، كانت لعناته تشق ثوب الليل الذي تزينه نجمات قليلات متباعدات، فلا نرى
السماء الا جدارا عملاقا يمتد عرضيا حتى المجهول يريد أن ينشق أو يصطدم بالأرض في مكان قد
نصله، ونجد عنده الحياة.. لكن المحرك توقف والموت صوب رماحه نحونا