ليس مَن قَتَلَ الزبير.. ولكن مَن خَدَعَ الجزيرة؟!!
ضياء الدين بلال
-١-
وقعت عيني على ترويج في أحد القروبات، عن فيلم استقصائي سيُبث بقناة الجزيرة تحت عنوان (الجريمة السياسية)، يتناول قصة طائرة المرحوم الفريق الزبير محمد صالح نائب رئيس الجمهورية السّابق في مدينة الناصر بجنوب السُّودان عام ١٩٩٨م.
قُلت لنفسي:
قناة الجزيرة بما تملك من مقدرات وأدوات وإمكانيات وكفاءات، قد تحصّلت على معلومات جديدة ووثائق خطيرة، ذات مصداقية عالية ودلائل قاطعة وجازمة لا يتسرّب إليها الشك، ولا يقترب منها الظن، تثبت يقينًا أنّ ما حَدَثَ في تلك الفترة يندرج تحت تصنيف (الجريمة السِّياسيَّة) عنوان البرنامج..!
-٢-
هيّأت نفسي بحكم اهتمامي وعملي في مجال الوثائقيات، لمُشاهدة عمل وثائقي واستقصائي فريد ومتميز، سيسهم في فتح الباب أمام جدل سياسي وجنائي مُثير، وقد يُعيد ملف الحادثة التي مَرّ عليها ربع قرن من الزمان إلى الواجهة، وربما منصّات القضاء.
(٠٠٠٠٠٠)
عقب الانتهاء من المُشاهدة والتأكُّد من عدم وجود جُزءٍ ثانٍ أو ثالث يطلق سراح الاستفهامات التي طرحها العمل التلفزيوني..!
وبعد التأكُّد من أنّ البرنامج يُبث عبر قناة الجزيرة لا قناة تنتحل اسمها..!
لم أصدِّق ما حَدَثَ، ولم أفهم كيف حَدَثَ ذلك؟!
-٣-
* برنامج تلفزيوني بقناة عالمية ذات سُمعة رفيعة، وصيت ذائع، وانتشار غير محدود، ولها إرثٌ من الوثائقيات والأعمال الاستقصائية من (سري للغاية) إلى (ما خفيَ أعظم).
* برامج غيّرت مجريات الأحداث العالمية والإقليمية، وبعض ما يظن أنّها حقائق تاريخيّة.
* قناة في شبكة إعلامية تمتلك مركزاً شبه أكاديمي، يقدم دورات وشهادات عن هذا النوع من الأعمال التلفزيونيّة والصّحفيّة.
* مع كل ذلك تتورّط في بث عمل تلفزيوني لا تتوفّر فيه أدنى وأبسط مقومات التوثيق والاستقصاء، ولا حتى اجتهاد التلاميذ..!
* برنامجٌ قائمٌ على فرضيات ساذجة وغير مُتماسكة، مُصنّعة من نفايات الشائعات البالية ونمائم المجالس.
* فرضيات واتّهامات جاءت في البرنامج دون تعريف بالمصادر، ولا تبرير منطقي وموضوعي، يُفسِّر لماذا أصبحت هذه الشائعات القديمة قابلةً للتعامل معها الآن كفرضيات جدية تستحق البحث والتّقصِّي؟!
-٤-
* إلى نهاية البرنامج لم يعرف المُشاهد، هل الزبير مات مقتولاً، أم قضاء وقدر، أو إهمال وسُوء تقدير من طاقم الطائرة؟!
*وهذا من المُفترض أن يكون مناط البحث والتقصِّي والتوثيق حتى إذا لم يُحدِّد الفاعلين والمُتّهمين، يثبت على الأقل وجود الجريمة في الأساس..!
-٥-
* لكن ماذا حَدَثَ..؟!
* البرنامج المُضطرب الروايات، والمُتنازع منذ البداية إلى النهاية بين اعتبار أنّ ما حَدَثَ لطائرة الزبير حادثٌ عارضٌ أم عملية اغتيال مُدبّرة تستحق التّصنيف بأنّها (جريمة سياسية) ظل لساعة تلفزيونيّة يدور حول نفسه إلى أن انتهى إلى النقطة التي بدأ منها..!
* دعونا نطّلع على قائمة الاتهام التي أوردها البرنامج:
– الترابي.
– البشير.
– ضباط انقلاب ٢٨ رمضان من البعثيين.
– قوات جون قرنق في الناصر.
– حرس أروك طون في تبادل إطلاق نار داخل الطائرة.
– رياح الشتاء وقصر مهبط الطائرة.
-٦-
* المُدهش حَدّ الصّدمٌة، البرنامج لم يبذل أقل مجهودٍ في البحث عن أدلة تثبت أو تنفي الاتّهام على واحد من المُتّهمين..!
* إذن، ماذا فعل؟!
فعلٌ نقيضٌ، ما هو مطلوبٌ منه حسب طبيعة البرنامج الاستقصائيّة:
* اكتفى فقط بطرح الاتّهامات أو قُل ترديد الشائعات، طرح أسئلة في البداية وبعد ساعة انتهى إلى ذات الأسئلة في الختام..!
-٧-
* برنامجٌ وثائقيٌّ لم تُقدّم فيه وثيقةٌ واحدةٌ.
* برنامج للتقصِّي لم يحصل على معلومة واحدة جديدة، أو يكشف الغطاء عن مجهولٍ، أو يزيل الغُموض عن مُعتمٍ..!
* برنامج يحمل عُنواناً بمثابة إدانة استباقية (الجريمة السِّياسيَّة)، قبل أن يصل أو يكتشف حقيقة ما حَدَثَ إن كان جريمة أم حادثاً..!
* برنامجٌ يأتي بشهادات شُهود كانوا ضمن الطائرة وفي قلب الحدث، ثم يذهب ليستنطق شخصيات لا علاقة لها بالحادث من قريبٍ أو بعيدٍ، يُردِّدون الشائعات التي أنتجها الخيال الشعبي في ذلك الزمان..!
-أخيراً-
* الجدير بالتحقيق، حقيقةً ليس حادث طائرة الزبير، ولكن كيف عبر هذا البرنامج السّاذج الكسول لشاشة الجزيرة؟!
* الجدير بالتقصِّي ليس سقوط الطائرة في نهر السوباط، ولكن سقوط قناة بحجم ووزن وقيمة الجزيرة في امتحان ضبط الجودة وحماية المُستهلك..!