تاركو وفضل محمد خير.. تجليات الأزمة العميقة
كتب:صديق رمضان
سألني زميل صحفي مُتعجباً عن عدم تعليقي علي أزمة شركة تاركو للطيران وفضل محمد خير، بحكم تخصُصي في إعلام الطيران عطفاً على التحقيق الاستقصائي الذي أجريته في العام ٢٠١٩ عن هذه القضية بالاستماع إلى الطرفين، فقلت له ياصديقي الأزمة أكبر من ذلك بكثير وبالغة العُمق، قلت له أنها أزمة وطن تتقازفه الأمواج ويكاد يغرق في بحر التلاشي لسوء ادارتنا وفسادنا وتردي أخلاقنا وضُعف وطنيتنا ودخول ضمائرنا في إجازة مفتوحة.
قلت له.. حسناً.. سوف أكتب، ولكن عن ماذا أكتب بعد أن اعتزلت الكتابة مُنذ فترة بسبب الإحباط الذي امسك بتلابيبي ويحيط بي احاطة السوار بالمعصم بل يكاد يخنقني، فكل شئ بات قفر يياب حتى أنفسنا تشكو الجفاء والجفاف، وقد احتلتها أمراض الحقد والكراهية.
هل أكتب عن “١١٦” شاب كُنا ندخرهم لمستقبل الوطن وقد تمت مصادرة أرواحهم بدم بارد عقب الإنقلاب لمجرد خروجهم إلى الشارع شاهرين سلاح السلمية وهم يطلقون العنان لحناجرهم وهي تردد اهازيج الحرية، السلام والعدالة وينشدون وطن تتوفر فيه أدنى مقومات الحياة الكريمة، لا نعرف حتى الآن من الذي حكم عليهم بالإعدام ومن الذي نفذ الحُكم، لأنه لم تخرُج جهة عدلية لاخبارنا عن هوية الفاعل، وللاجابة على سؤالنا حول كيفية القصاص لهؤلاء الشهداء هل سيكون في الدنيا أم الآخرة .
أم أكتب عن الوجع الذي مايزال يسكن نفوسنا حُزنا على أرواح بريئة تم ازهاقها بسبب فتنة أصابت العقول بالجنون في ولاية النيل الأزرق فاذهبت عنها الإيمان والأخلاق فكانت المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من مائة مواطن سوداني، لا نعرف من المسؤول عن هذا الألم الذي مايزال يسكُن نفوسنا المُرهقة ودواخلنا المُحبطة واجسادنا المُنهكه.
هل أكتب عن حُلم الثورة الجميل الذي كان واقعاً عشناه طوال فترة الدكتور حمدوك ثم تلاشي وتبدد وذهب ادراج الرياح بعد إنقلاب ٢٥ أكتوبر الذي أعادنا لذات عهد التيه والفشل والتردي الذي لم نهنأ بمبارحة محطته المشؤومة، كانت حكومة حمدوك رغم اخفاقاتها الأمل الذي تمسكنا به بل كانت بمثابة الضوء في آخر النفق الذي كنا نأمل بأن يكون معبرنا من دولة الفساد، الظلم، القتل، إلى رحابة دولة العدالة والسلام والحرية.
أم أكتب عن عودة ذات الوجوه التي رضعت من ثدي الدولة السودانية طوال ثلاثون عاماً عجافا حتى جفّ ضرعها واصابها الهزال،عادت وهي تخرج لسانها ساخرة من الثورة المجيدة، ذات الشخوص الذين خطفوا اللُقمة من أفواه الجياع ورسموا الحُزن على وجوه الأيتام والفقراء ، لقد عادوا ياصديقي أكثر نهماً ليكتنزوا المال والذهب ولينتصروا لذواتهم الفانية ولتصفية حساباتهم الشخصية، وهؤلاء عندما يتم ذِكر إسم الثورة والثوار فإنهم يتحسسون جيوبهم المكتنزه بالمال العام ورقابهم التي تطاولت بفعل الفساد خوفاً من أن تطالهم يد العدالة اذا انتصر الثوار.
عن ماذا أكتب ياصديقي، عن الربا الذي تفشي، أم عن النهب والتفلت الأمني، وانتشار المخدرات، أم عن حالة الفراغ واللا دولة التي تُعاني منها بلادنا، والتشظي الذي ضرب كافة ارجاءها فبات الحاضر مؤلماً والمستقبل قاتماً، أم أكتب عن حالة الفقر المُدقع الذي أحكم قبضته علينا.. أم عن ماذا اكتب؟
قال لي أكتب عن قضية تاركو وفضل محمد خير، فقلت له ذكرت لك أنها جزء من أزمة كبيرة تعصف بالبلاد، لكن قلت له تاركو اتذكرها جيداً حينما زرعت الفرحة والبسمة في وجوه أكثر من “200” يتيم من أبناء النازحين بالفاشر والجنينة الذين نظمت لهم احتفالات ضخمة في ختانهم الذي تكفلت به، وتاركو اعرفها جيداً وقد حضرت ضمن مجموعة من الصحفيين وعضو مجلس السيادة الهادي إدريس تكريمها مادياً ومعنوياً لحفظة القرآن الكريم بخلاوي الشيخ علي بيتاي بغرب أم درمان، كما تشرفت بحضور وداع مُصابي الثورة بمطار الخرطوم الذين أقلتهم مجاناً إلى القاهرة، وغيرها من أعمال جليلة، سألته، هل تعتقد أن شركة تحُفها دعوات الأيتام ومُصابي الثورة وحفظة القرآن هل ستُضام؟.
ولكن المُهم.. متى تخرُج البلاد من حالة الفراغ ومتى تبارح محطة الفشل والتشظي، ومتى تصفو نفوسنا من الحقد والكراهية والحسد لتسمو إلى مراتب الإنسانية الحقيقية ، ومتى نُصفق ونشجع لمن يلامس ثريا النجاح بدلاً عن وضع المتاريس في طريقه، ومتى يعود السودان الذي نعرفه، ومتى نصل إلى دولة العدالة التي لايُظلم فيها أحد، دولة الحرية التي لايصادرها من يُضيق زرعاً بها، دولة السلام التي لاتعرف الحروب، دولة لا مكان فيها للفساد والمفسدين والظلم والظالمين.
متى ياصديقي نرتاح فقد تعبنا كما قال الشهيد عبدالعظيم.