رغم عدم الاستقرار السياسي عقب أحداث 25 أكتوبر ، التي تسببت في تجميد مساعدات مالية من امريكا والمؤسسات الدولية قدرت بأكثر من ملياري دولار ، وفي خطوة تخالف الواقع الاقتصادي المتردي وتلتهب فيها نيران الأسعار في البلاد ، أعلن الجهاز المركزي للاحصاء انخفاض معدل التضخم لـ 192% رغم استمرار ارتفاع أسعار السلع ، وأفصح جهاز الإحصاء عن انخفاض معدل التضخم في مايو إلى 192% مقارنة بـ 220% لشهر أبريل، ويعود هذا الانخفاض إلى ارتفاع مستوى الأسعار العام في مايو 2021، والذي سجل معدل تغيير شهري بلغ 17.19% بسبب زيادة تكلفة الوقود؛ وذلك مقارنة بمعدل التغيير الشهري لمايو 2022 الذي بلغ 6.78%. وقال جهاز الإحصاء المركزي، إن “معدل التغيير السنوي (التضخم) بلغ 192.21%، بانخفاض 28.50 نقطة عن شهر أبريل الذي كان معدله 220.71%”.
وأشار إلى أن الانخفاض أتى رغما عن الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار للعديد من المجموعات السلعية، كمجموعة الصحة، الاتصالات والترويح، وسلع وخدمات متنوعة أخرى؛ بسبب زيادة الأسعار في مايو 2021. ويُقاس معدل التضخم السنوي في المستوى العام للأسعار للشهر الحالي مع نظيره في العام الماضي، أي أنه قياس تغيير الأسعار خلال عام ، ليبقى السؤال ما مدى واقعية وحقيقة انخفاض معدل التضخم في ظل مؤشرات اداء الاقتصاد ، وهل هو انخفاض حقيقي أم بسبب تراجع القوة الشرائية؟ .
مصداقية على الورق
ويؤكد الخبير الاقتصادي عضو اللجنة الاقتصادية بقوي اعلان الحرية والتغيير عادل خلف الله أن واقع اسعار السلع والخدمات يؤكد عدم انخفاض معدل التضخم ، ويوضح أن التضخم مؤشر نسبي مئوي بمعدل تغيير اسعار السلع والخدمات ، ولا تكون مصداقية المؤشر على الورق فقط ، وتبقى المصداقية من خلال واقع السلع والخدمات ، ويضيف عادل في حديثه لـ(الإنتباهة) أن واقع الحال في البلاد يقول إن غالبية السلع والخدمات متزايدة وغير متناقصة ، خاصة بعد تحرير اسعار المشتقات البترولية ، وزيادة تعرفة الكهرباء ، لجهة أن الزيادات التي نجمت فيهما ، انتجت زيادات افقية ورأسية في كافة السلع والخدمات .
انخفاض سياسي
ويشير عادل إلى أن عدم مصداقية الجهاز المركزي للاحصاء في قياس معدلات التضخم بين المؤشر والمعطيات الواقعية في السلع والخدمات بدأ منذ أكثر من اربعة أشهر ، ويؤكد أن المؤشرات التي عملها الجهاز المركزي للإحصاء فيها مفارقة بين المؤشر الرقمي والواقع الفعلي للأسعار ، ويقول حدث تقويم لمجموعات السلع والخدمات ، وعلى ضوئها كان الجهاز المركزي للاحصاء يعلن عن تقريره ، ويؤكد أن هذا الاتجاه يفقد الجهاز مصداقيته ومهنيته ، لجهة أنه يريد أن يرضي توجهات سياسية وليس اقتصادية ، ويضيف قائلاً :” انخفاض التضخم سياسي وليس واقعيا” ، ويؤكد عادل أن انخفاض معدل التضخم ليس حقيقيا ، لجهة أن البنك المركزي اعلن عن زيادة الكتلة النقدية بنسبة أكثر من 20% ، في الموقف المالي للبنك ، ويجزم بأن زيادة الكتلة النقدية لديها آثار تضخمية وليس بالتناقص ، ونشرة المركزي تؤكد أن التضخم في زيادة ، باعتبار أن الكتلة النقدية زادت بطباعة النقود ، بالتالي زاد معدل التضخم ، فضلاً عن واقع الاسعار الذي تأثر بزيادة اسعار الطاقة ، ويشير عادل الى أن الانخفاض الرقمي للتضخم تم لان الجهاز المركزي للإحصاء زاد مجموعات السلع التي بنى عليها مستوى التضخم ، واضافة بعض السلع لتلك المجموعة من أجل تخفيض نسبة التضخم .
نار الأسعار
وتواجه البلاد مصاعب اقتصادية كبيرة في الأشهر الاخيرة ، عقب ايقاف مؤسسات التمويل الدولية للمساعدات التي وعدت بتقديمها للبلاد في شكل منح وقروض ، وقبل أحداث 25 اكتوبر كان اقتصاد البلاد منفتحا على العالم ، وكانت هناك حكومة مدنية ، ولكن الآن البلاد مقلقة اقتصاديا ولا توجد حكومة ، الامر الذي ادخل البلاد في عزلة اقتصادية جديدة ، ومن هنا يؤكد الخبير الاقتصادي د. وائل فهمي أن انخفاض معدل التضخم غير حقيقي لشهر مايو 2020 ولم يتم التعرف على شكله بالمقارنة مع شهر ابريل 2022 ، ويقول نريد أن نعرف الاسعار مقارنة مع شهر ابريل 2022 وليس مع شهر مايو 2021 ، حتى يتم التعرف على مدى تحسن مستويات التضخم لمعرفة مدى التأثير على تكاليف المعيشة بالمقارنة الشهرية، ومدى تأثير سياسات المالية والنقدية الحكومية خلال الشهرين الفائتين ،ويجزم د. وائل في حديثه لـ(الإنتباهة) بوجود خلل واضح في مواجهة ارتفاع الاسعار ومقارنة شهر بشهر ، ويضيف قائلاً ” المواطن يكتوي بالاسعار الشهرية وليس الأسعار السنوية ، ولا نريد مقارنة التضخم بشهر عفا عليه الزمن وسنة انتهت ومضت بمعطيات وعلاقات محلية ودولية مختلفة عن بعضها البعض .
سواقة بالخلا
ويؤكد وائل بعدم وجود بيان واضح من الجهاز المركزي للاحصاء عن معدلات التضخم الشهرية ، ويقول لا نعرف الى الآن شكل الانخفاض او الارتفاع في معدل التضخم لشهر مايو ٢٠٢٢ للمقارنة بشهر ابريل ٢٠٢٢ ، ويضيف قائلاً :” المواطن مكتوي بنار أسعار شهر ابريل ، ونريد أن نعرف الفرق ، ولا نريد ان تعرف الأسعار بتاريخ العام ، ويتابع :” انخفاض معدل التضخم المعلن حاليا هو “سواقة بالخلا” للمواطن ” ، ولم نكن نتوقع أن تفوت المقارنة الشهرية على الجهاز المركزي للإحصاء .
ويؤكد وائل أن تقرير الجهاز المركزي للاحصاء لم يكشف بعد معدل التضخم الشهري ولا يوجد بيان بذلك ، ويقول نريد أن نعرف كم كان المستوى العام للأسعار في شهر ابريل 2022 وكم كان في شهر مايو 2022 ، كي نستطيع أن نحدد كم كان معدل التضخم وتطوره بين الشهرين مايو وابريل 2022 ، ويشير الى أن قياس التضخم على اساس سنوي غير منطقي في ظروف تسارع ارتفاعات الأسعار المتلاحقة ، والمواطن يريد أن يعرف كيف كان شكل تكاليف معيشته في مايو مقارنة مع ابريل ، لجهة أن البيان السنوي لمعدل التضخم غير مفيد ايضا للمنتج كما المستهلك ، بسبب حدوث تغيرات كبيرة خلال العام .
إعادة نظر
أما بالنسبة للخبير الاقتصادي د . محمد الناير فأن الواقع على الأرض لا يشير الى انخفاض معدل التضخم ، لجهة أن اسعار السلع والخدمات ما زالت ترتفع رغم استقرار سعر الصرف في الفترة الماضية ، ويشدد د . الناير في حديثه لـ” الإنتباهة” على ضرورة أن يعيد الجهاز المركزي للإحصاء النظر في الآليات التي يحسب بها معدل التضخم ، ويضيف قائلاً : الجهاز مطلوب منه أن يجري مسحا شاملا لقياس ما لايقل عن “600” سلعة في 18 ولاية ، وتساءل الناير هل الجهاز لدية الامكانيات ووسائل الحركة ليقوم بمسح هذه الأسعار ، ومعرفة حجم التغيير فيها في 18 ولاية ؟ ، ويضيف لا اعتقد ان الجهاز يستطيع أن يقوم بذلك شهرياً لضعف الامكانيات الموجودة لديه ، ويؤكد أن الواقع يشير الى عكس ما يعلنه الجهاز عن معدلات التضخم ، ويشير الناير الى أن الدولة تستهدف نسبة 220% معدل تضخم وتريد أن تصل لهذا المتوسط خلال العام ، وقياساً بالعام السابق ، 360% لم يحدث نقصاناً في وتيرة الزيادات في الاسعار حتى يكون معدل التضخم صحيحا كما هو معلن .
تحليل ميكانيكي
بدوره يؤكد الخبير الاقتصادي عضو اللجنة الاقتصادية بالحرية والتغيير محمد نور كركساوي أن الجهاز المركزي للاحصاء يحلل معدلات التضخم تحليل “ميكانيكي” ، ويقوم بزيادة القاعدة التي يقيس عليها ، ويشير الى أن الجهاز يقوم بتحليل تسعة سلع وخدمات اساسية كي يخفض معدلات التضخم ، ويقول في حديثه لـ” الإنتباهة” لا نعرف القاعدة التي بنى عليها الجهاز المركزي للاحصاء ، وعلى اي قائمة خدمات وسلع قاس معدلات التضخم ، ويضيف قائلاً :” موشرات الاسعار لا تدل على ذلك ، ولا تقول إن معدلات التضخم انخفضت” ، ويتابع الاسعار في تزايد يومي ، ويؤكد محمد أن المؤشرات العلمية لا تدل على انخفاض معدل التضخم ، ويقول نريد أن نعرف سلة الخدمات الضرورية والسلع ، وكيف حددها الجهاز المركزي للإحصاء .
الانتباهة
ارتفاع عجز كلي
ويؤكد الخبير الاقتصادي د. هيثم فتحي أن المشكلة الآنية للاقتصاد السوداني ليست في حجم النسبة التي انخفض بها معدل التضخم ، وأنما في متى سوف يكون باستطاعة المواطن العيش براتبه ويكفيه دخله، وأن تكون معظم احتياجاته في متناول اليد ؟ ، ويقول في حديثه لـ(الإنتباهة) أن الاشكالية ليس في انخفاض التضخم ولكن كم وصلت اسعار السلع، لذلك النهايات غير مهمة للمواطن مهم النقطة التي انطلقت منها الاسعار الى الأعلى، ويا ليتنا نعود اليها ، ويشير الى أن تدني مستوى دخل الفرد في السودان يعود إلى معاناة الاقتصاد من معدلات البطالة القياسية، وتراجع الإيرادات العامة والمنح للحكومة، مما أدى إلى ارتفاع العجز الكلي خاصة مع استمرار التباطؤ في الاقتصاد ، ويقول ان متوسط الدخل الحقيقي يعتبر مؤشراً أدق لقياس مدى تحسن أو تدني مستوى المواطن ، وأن الزيادة في الدخل دون النظر إلى زيادة مستوى الأسعار لن تقيس تحسن القوة الشرائية بدقة ، ويؤكد أن تدني دخل الفرد يعكس صورة السودان اقتصادياً أمام الاستثمار الأجنبي، مما يعني أنّه لم يعد جاذباً للاستثمار، كما أنه يضع صعوبات عليه من حيث حصوله على القروض من المؤسسات الدولية ولكن بتكاليف أعلى ، ويوضح هيثم أن تدني دخل الفرد أيضاً يمثل انعكاساً للاقتصاد الناجم بشكل أساسي عن ضعف معدلات النمو، وزيادة عدد السكان خلال الأعوام الماضية، بسبب حركة اللجوء الكبيرة للسودان من دول الجوار وبعض الدول المضطربة سياسياً، وأمنياً، واقتصادياً، كما أن معدلات التضخم في الأعوام الماضية ساهمت في تراجع القوة الشرائية للمواطنين