تناولنا في العام 2012 في هذه الصحيفة إلى ملف عملية السطو التي تمت من قِبل نظام الإنقاذ وكبار قيادته على مباني وعقارات بعدد شعر الرأس، وأراضي واسعة، هي في الأصل أوقاف اسلامية سجلها أصحابها وقف لله بشروط الوقف المعروفة، على أن يُصرف ريعها للمساكين والايتام والارامل، وأوجه الخير المتعددة، لكن جهابذة النظام أمِنوا العقوبة، وعاثوا فساداً في مال الله وأوقافه، حيث لم يقفوا عند حد أكل مال الشعب السوداني، إذ امتدت ايديهم كذلك إلى الأموال والعقارات الموقوفة لله..
(1)
تناولت هذا الملف والذي يُعتبر الأخطر والأنتن، لأنه يتعلق بحق الله، ونشرتُ سبع حلقات بـ “الإنتباهة“ مدعومة بالمستندات، كشفت فيها بالوثائق كيف تورط نظام الإنقاذ من اعلى مستوى إلى أدناه في جريمة نهب تلك المباني والعقارات الأراضي الشاسعة، والتصرف فيها وكنتُ على يقين وقتها أن النظام لن يجروء على محاسبة عناصره، لأن أعلى سلطة في البلاد آنذاك وهو القصر الجمهوري متورطة أيضاً في عملية النهب والبلطجة من أخمص قدميها حتى شعر رأسها، ومع ذلك نشرنا لأننا كنا نريد التوثيق لهذا الفساد، ولم نكن نطمع في محاكمة الفاسدين، ولأننا نعلم أن نظام الإنقاذ الذي يحمي الفساد إلى زوال، وأن يوم الحساب سيأتي، وستعود الحقوق إلى أصحابها يوما…ومن أراد الإطلاع على سلسلة حلقات التحقيق كاملة والمنشورة في العام 2012 فليبحث في قوقل تحت العنوان🙁صور من الفساد المحمي بالنفوذ والقانون)..
بعد سقوط النظام أعدنا شذرات من تلك الملفات وعنوناها إلى لجنة تفكيك الثلاثين من يونيوفي شكل حلقات ولكنها لم تهتم إلا بالنذر اليسير منه وعلى نحو انتقائي، وها نحن نعيد نشر هذا الملف متكاملا ولن نمل من تكراره …
(2)
وبحسب الوثائق آنذاك تلاعبت عصابة الإنقاذ في مساحة (52511) متر مربع هي المساحة الكلية لحديقة الحيوان، وفي مبالغ ضخمة من مال الوقف العائد من الحديقة وحدها بجانب إيلولة قطعة مميَّزة منها إلى الصندوق القومي للتأمين الاجتماعي، مقابل عمارة بكوبر وبضع “دينارات” لا تغيث محتاجًا ولا تقيم برًا، ورصدتُ من خلال تقرير عدداً من العقارات التي تم الاستيلاء عليها من جهات حكومية ومنظمات شبه رسمية وشخصيات نافذة، وذلك على النحو التالي:
اطلعتُ على خطاب بعث به د. الطيب مختار مدير الاوقاف وقتذاك، والذي اُطيح به بعد ملاحقتهم والتهديد بالنزع، بعث به إلى رئاسة الجمهورية، جاء فيه:
السيد/ وكيل رئاسة الجمهورية
لعناية د. الكندي يوسف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموضوع: أرض حديقة الحيوان
بالإشارة إلى الموضوع أعلاه نفيدكم بالآتي:
1/ هذه الأرض أرض وفقية أوقفتها حكومة السودان ــ الحاكم العام 1911م وشرطها أنها لعامة المسلمين.
2/ المساحة الكلية 52511 متراً مربعاً.
3/ تم منح الشركة العربية الليبية للاستثمارات الخارجية مساحة قدرها 45364م2 بتوجيه من النائب الاول علي عثمان .
وقد وجه السيد النائب الأول بتعويض الأوقاف تعويضاً عينياً مقابل الأرض التي تم استقطاعها لصالح الشركة العربية الليبية للاستثمارات الخارجية.
وإبراءً لذمتنا وذمة الدولة أمام المولى عز وجل نرجو الآتي:
1/ تعويض الأوقاف التعويض العيني المناسب الذي يرضي الأوقاف وفقاً لما جاء بقرار النائب الأول لرئيس الجمهورية.
2/ استعادة ما تبقى من القطعة بمساحة 7147م2 للأوقاف لتتمكَّن من تطويرها وتعظيم ريعها لصالح الوقف.
والله المستعان.
د.الطيب مختار/مدير ديوان الأوقاف القومية الإسلامية..
سألنا د. الطيب مختار قبل أشهر، عمّا إذا كان هناك جديد في موضوع الاراضي المنهوبة من الاوقاف، فأجاب: (الأوضاع كماهي عندما كتبت عنها قيل ثماني سنوات)..
(3)
تشكلت لجان فنية في العام 2010 برئاسة وكيل وزارة العدل آنذاك عبد الدائم زمراوي، لنزع العقارات والمباني والاراضي الشاعة، التي استولى عليها نافذون من بينهم “قاضي”، ووزارات، والمؤتمر الوطني الخرطوم، واتحاد طلابه، وبعض نقاباته، وهي مباني وقفية اوقفها اصحابها لرعاية الايتام، والأرامل والصرف على المساجد واوجه الخير الاخرى، حسب شروطهم، لكن ماالذي حدث؟ الحاصل، أن هؤلاء “الجماعة” و “بي” قاضيهم استولوا عليها، كما باعوا حديقة الحيوان للشركة الليبية دون ان يطرف لهم جفن، وهنا حدث العكس، (فبدلا عن هي لله، جات على الله في اوقافه)…
المهم تشكلت اللجنة لنزع هذه المباني، بعد خطاب “تهديد” من البشير لجيوش المحتلين من نوع خطاباته التي “يتنمّر” فيها ويعمل جماعته بعكسها، واصدرت اللجنة قرارات الاخلاء بالقوة الجبرية،لكن رغم ذلك رجعت القوة الجبرية من حيث اتت خالية الوفاض، لأن الحكاية أكبر من زمراوي ووزارة العدل، وحث الامين العام لديوان الأوقاف كل تلك الجهات وترجاها وذكّرها بأحاديث الرسول بشأن وقف الله الذي هو بمثابة (ناقة الله)، لكنهم استحقروه وسخروا منه و”عقروها”، علمتُ من امين الأوقاف السابق أن أكثر من 90%من هذه الاوضاع مازالت باقية كما هي…
توجد بـ”قوقل” سلسلة من الحلقات من هذا التحقيق بمستنداتها تحت العنوان أعلاه، وعنوان آخر “صور من الفساد المحمي بالنفوذ والقانون..
(4)
في العام 1929، سجل الشيخ حمد البريقدار عدداً من القطع بالارقام: 16، 17،18، 19، 20، 21،22، 23، 24، بالازيرقاب (بحري)، وقفاً لله تعالى، ليصرف ريعها للايتام والمساكين والمساجد والخلاوى، وقام بتسجيلها رسميا وبشهادة بحثها، واشهادها الشرعي لدي محكمة ام درمان في عهد الاستعمار الانجليزي…
في زمن الاستعمار البريطاني كان الحاكم العام يحرص على عدم المساس بهذا الوقف ويتعامل معه على اساس انه شعيرة دينية يجب ان تُمارس كما أمر الله، واستمر التعامل الحكومي مع هذا الوقف على هذا الاساس في عهد كل الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، الى ان جاءت “الانقاذ” ، فاصدرت ولاية الخرطوم قرارا في العام 2009 بنزع الوقف وتصرفت فيه بهواها..
المعلوم من الدين بالضرورة أن الوقف بعد إكمال اجراءاته يصبح في حكم “ملك الله تعالى” ،فلا يجوز شرعاً بعد الوقف أن يُباع أو يُرهن أو يُوهب أو يُورَّث، أما منفعته فتصرف على وجوه الخير والمنفعة العامة طبقًا للشروط التي يحددها الواقف، بمعنى أن الوقف تعطى منفعته لا أصله، لكن حكومة الخرطوم اصدرت قرارا وبلا ادنى حياء لامن الله ولا من الناس وانتزعت هذه القطع وتصرفت فيها ومثلها كثير سيأتي ذكرها ايضاً..
في العام (2011م) ، وبعد ان اثار الموضوع لغطا كثيفاً جاء في خطاب للرئيس المخلوع: (وكل من يتغوّل أو يتعدى على وقف لله سنردعه بالمساءلة والمحاسبة)، لكن في واقع الامر لاردع احداً ولا سأل أحداً ولاحاسب اي شخص من المتلاعبين بالاوقاف الى ان سقط نظامه) .
وكان ايضاً في يوم 5/10/ 2010م جاء في خطاب آخر له بمناسبة حملة إحياء سنة الوقف التي انعقدت بقاعة الصداقة في ذلك الوقت، جاء في خطابه: (لا بد أن تعطى الأولوية في السداد والدفع للأوقاف حتى لا يتعطل شرط الواقف أكثر مما تعطل ويلحق الضرر بالمساجد والخلاوي)، والكلام ايضا تبخر في الهواء ساكت..!
في العام 2011 خاطب أمين عام الاوقاف وزير التخطيط العمراني بما نصه:
الأخ الكريم/ وزير التخطيط والتنمية العمرانية ـ ولاية الخرطوم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموضوع: نزع أوقاف الشيخ حمد البريقدار، وبالإشارة للموضع أعلاه أفيدكم أن وقف الشيخ حمد البريقدار الذي يؤكده:
1/ الإشهاد الشرعي الصادر من محكمة أم درمان الشرعية في يوم الإثنين 12 ذو القعدة 1247هـ الموافق 22 أبريل 1929م .
2/ كذلك شهادات البحث للقطع رقم (16/17/18/19/20/21/22/23/ 24) بمقر الازيرقاب ـ بحري
هذا الوقف أوقفه الشيخ حمد البريقدار لمسجد حمد محمد بريقدار ولفقراء ومساكين.
تعلمون أنه من شروط الوقف الشرعية أن يكون مؤبداً وأنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث وقال العلماء شرط الواقف كنص الشارع، ولم يعرف تاريخ السودان نزاعاً أو مصادرة للأوقاف مراعاة لحرمتها وشعور المسلمين حتى في زمن الحاكم العام البريطاني.
ولكن رغم هذه المحاذير الشرعية قام والي الخرطوم بنزع الوقف بالقرار الصادر بتاريخ 9/1/2009 م والمنشور بالغازيته الرسمية بتاريخ 26/1/2009م.
(5)
لقد ظل ناظر الوقف يسعى للوصول إلى معالجة ذلك القرار ولكن دون جدوى منذ عام 2009م . ولقد فوض ناظر الوقف ديوان الأوقاف القومية الإسلامية بما له من حق الإشراف العام على جميع الأوقاف بمعالجة وقف البريقدار .
ولما كان أوجب الواجبات الشرعية على ناظر الوقف أو الديوان حمايته من الضياع أضع الأمر بين يديكم لإعادة الوقف لما كان عليه أو تعويض الأوقاف عوضاً شرعياً يرضى عنه الناظر والديوان يكون أفضل من الوقف السابق أو على الأقل مثله. فالرجوع للحق من فضائل الخير خاصة أننا لا نريد زعزعة ثقة الأمة في الأوقاف بنزعها أو غبنها…هكذا كان امين الاوقاف د. الطيب مختار يترجى ويُذكِّرهم بالدين لكن بلا جدوى ،فقد ضاعت كل اوقاف الشيخ البريقدار وغيرها الكثير ، واخيرا قامت الولاية بتحريف شهادة بحث عدد كبير من مباني الاوقاف، وسنأتي الى تفاصيل ذلك في حلقات اخريات..
وفي خطاب آخر من ديوان الأوقاف الى اتحاد الغرف التجارية جاء فيه:
السادة/ اتحاد الغرف التجارية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموضوع: الأرض الوقفية التي تشغلونها
بالإشارة إلى الموضوع أعلاه، فإن القطعة التي يشغلها اتحاد الغرف التجارية (الدار الاستشارية سابقاً) غربّ جامع فاروق، وهي أرض وقفية جزء من مساحة القطع الوقفية 8/ب و9/ب غرب الخرطوم حسب ما أكدته الدراسات البحثية التي قامت بها الأوقاف القومية مع المساحة.
وبالإشارة لقانون ديوان الأوقاف القومية الإسلامية لسنة 2008م الذي ألزم الديوان باسترداد جميع الأراضي الوقفية التي تستغلها الجهات الحكومية وغيرها رأينا مخاطبتكم لتحديد موعد للجلوس معكم عاجلاً للتفاكر والتشاور حول:
1/ تحديد وسداد الأجرة عن الفترة السابقة للأرض الوقفية.
2/ توقيع عقد الأجرة عام 2011م يتراضى عليه الطرفان يكون مبرئًا للذمة من مال الوقف.
3/ الاتفاق على موعد لإخلاء الموقع لاستثماره بصورة تليق وقلب الخرطوم بما يحقق عائداً مجزياً يعود على الأوقاف والموقوف لهم من مساجد وأيتام وفقراء بالخير الكثير، فإن أوجب واجبات ناظر الوقف هو تطويره وزيادة عائداته..
وهكذا ظل ديوان الاوقاف يخاطب كل الجهات والافراد والوزارات التي استولت على المباني الوقفية، ويتفاهم معها باللين والموعظة الحسنة، ويذكِّرهم بالاحاديث وتعظيم شعيرة الوقف، و”الجماعة” ولاعلى بالهم، فصدوا وعتوا عن امر ربهم، فسلَّط الله عليهم ثورة ديسمبر الفتية المباركة، فجعلت عاليها سافلها ووضعتهم في “فتيل”.. كل ذلك نشرناه في العام 2012 بالمستندات، ومانفعله الآن هو إعادة نشر لإسناد لجنة التفكيك ووضع الملف بين يديها…
(6)
ونحن نبحث في ملف الفساد الذي ضرب الأوقاف، وضعنا أيدينا على مستندات جديدة، تشير إلى وقوع جريمة لم تكن في الحسبان،وهي عملية تغيير حدثت لسجل 20 قطعة معظمها في المقرن مربع واحد ،هي أكبر جريمة ترتكب في حق وتأريخ الأوقاف، لما لها من تداعيات خطيرة وهو امر لم يحدث من قبل في تاريخ الأوقاف، الأمر الذي اعتبره الكثيرون من القائمين على امر الاوقاف مقدمة للسطو على أعيان الأوقاف جميعها، ويبدو انها جاءت لاخفاء جريمة أخرى أرتكبت قبلها تتعلق باستخراج تصريح بناء خاص بالأرض الوقفية( سودان ديزل، شرق برج الذهب الحالي) ، لم تستخدم فيه شهادة البحث المسجلة باسم ديوان الأوقاف القومي، بل تم استخدام شهادة بحث أخرى ليست باسم أوقاف الخرطوم !!!. ولاخفاء هذه الجريمة ، وبعد أن تحرك ديوان الأوقاف ، ارتكب هؤلاء جريمة تغيير السجل، حتى ينفوا عن أنفسهم السطو على تلك الأرض الوقفية ، وليمرروا العقد الذي وقعوه مع احدى الجهات دون أن يملكوا أرضه .!!. قام ديوان الأوقاف بعد استيعاب أمين الأوقاف السابق د الطيب مختار في عضوية مجلس أمناء الديوان،بعد اقالته في السابق باعتباره الأكثر الماما بمحاولات التعدي على الأوقاف القومية،والتصدي لها..
(7)
قام مجلس الأمناء بمبادرة من د. الطيب مختاربإعداد مذكرة الى وزير العدل،حول القرار الجمهوري “الفضيحة” رقم 283 – لسنة 2015 م ، والذي قضى بتسجيل عدد (20) قطعةبمساحة (55) ألف متر وتقدر قيمتها بـ “120” مليون دولار، مسجلة باسم ديوان الأوقاف القومي ،ولها اشهاداتها الشرعية ، لتُسجل في سجل هيئة الأوقاف – ولاية الخرطوم – (من بينها قطع سودان ديزل– 3150 م م –التي بدأت الولاية في انشائها) لتغطية جريمة عدم صحة مستندات متطلبات الانشاء ، ومنها توقيع عقد الانشاء ، والحصول على تصريح البناء ، من دون اثبات حق الملكية – شهادة البحث –، ومن دون اثبات النظارة ، وكلاهما ، شهادة البحث باسم ديوان الأوقاف القومي ، والنظارة كما في الاشهاد الشرعي ، تخصان ديوان الأوقاف القومي !!! .
القرار الجمهوري الفضيحة( 283/2015 ) والذي فتح الباب للتلاعب وبيع الاوقاف ، يعتبر طامة كبرى في تأريخ الأوقاف، إذ شجع الكثيرين على التعدي على الأوقاف والتلاعب في أعيانها ، بعد التلاعب في سجلاتها، مما سيؤدي إلى ضياعها إلى الأبد، إن لم تُوقف هذه المهزلة الآن..
الانتباهة