في الحادي والعشرين من نوفمبر في العام الماضي أعلن وزير المالية جبريل إبراهيم اتخاذ وزارته قراراً بتوحيد سعر الصرف، في ظل ارتفاع (غير مسبوق) للتضخم و (وضع مزرٍ) للاقتصاد في البلاد، وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد تشابهت فيها الأوضاع الاقتصادية حينما تم التعويم الجزئي للجنيه الذي بررته الحكومة بالعجز الكبير في الموازنة العامة والعجز المستمر في ميزان المدفوعات، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم وتآكل مريع في سعر العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية التي وصلت وقتها حاجز (375) جنيهاً، ويتفق الجميع على أن القرار إدى إلى استقرار نسبي في سعر الصرف بالسوق الموازي طيلة العام الماضي حتى (25) أكتوبر الذي شهد إجراءات بقيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أدت إلى تغيير الحكومة ومكوث البلاد لأكثر من (4) أشهر دون حكومة، وتجميد الدعم الخارجي الذي يقدر بمليارات الدولارات، حتى انتهى المطاف بالحكومة بتحرير كامل للدولار أمس الأول الذي وصل حاجز (600) جنيه بالسوق الموازي.
الشاهد أنه في صبيحة قرار السعر الحر للصرف انخفضت أسعار العملات الأجنبية بعد قرار توحيد سعر صرف الجنيه، حيث يجري تداول الدولار في المصارف بنحو (٥٤٤) جنيهاً مقابل (٥٨٠) جنيهاً للشراء و (٥٩٠) جنيهاً للبيع في السوق الموازية.
وكشف أحد المتعاملين في السوق الموازية لـ (الانتباهة) عن تراجع طفيف لأسعار العملات الأجنبية مع شلل تام بحركتي البيع والشراء نتيجة المظاهرات التي انتظمت بالأمس، وبلغ سعر الريال السعودي (١٤٠) جنيهاً للشراء و (١٤١) جنيهاً للبيع، وبلغ سعر الدرهم الإماراتي (١٤٣) جنيهاً للشراء و (١٤٥) جنيهاً للبيع، وكشفت قائمة أطلقها بنك الخرطوم أمس عن ارتفاع أسعار صرف العملات بالبنوك، حيث بلغ سعر بيع اليورو (٥٧٥.٧) وسعر الشراء (٥٧١.٤) جنيه، وبلغ سعر بيع الدولار الأمريكي (٥٣٠) والشراء مقابل (٥٢٦) جنيهاً، أما الريال السعودى فسجل (١٤١) للبيع و(١٤٠) جنيهاً للشراء.
تجارب التعويم
وتشير الإحصائيات إلى أن هناك (8) تجارب عالمية سابقة في عملية تحرير سعر العملة أو تطبيق نظام الصرف المرن، وفقط دولتان تمكنتا من أن تتجاوزا أزمتيهما بعد فترة قصيرة من الاتجاه إلى تحرير عملتيهما مقابل الدولار.
وربما يعتمد نجاح تجربة تحرير سعر الصرف على القدرة التنافسية للدولة من حيث الإنتاج والتصدير للبلاد، في حين تعاني الاقتصادات الهشة من صعوبة انتقالها لمرحلة الصرف المرن خاصة بالنسبة للطبقة الفقيرة.
ورغم صعوبة التجربة في (6) دول طبقت عملية تحرير عملتها مقابل الدولار، لكن الصين والهند استفادتا بنسبة كبيرة من نظام الصرف المرن، بفضل الصادرات المرتفعة وتدني أسعار منتجاتها، ما عزز الإقبال عليها خارجياً ومحلياً، وجذبت الاستثمارات الأجنبية نتيجة انخفاض سعر العملة الهندية والصينية.
وفي نيجيريا اتجهت الحكومة إلى نظام الصرف المرن في عام 2016م، وإذا كانت نيجيريا قد حققت بعض النجاح في فك ارتباط عملتها بالدولار إلا أن المستثمرين الأجانب استجابوا ببطء، ومازالت العملة النيجيرية تباع في السوق السوداء بسعر يقل بحوالى 20% عن السعر الرسمي.
الهاوية
وبرأ الأمين العام لاتحاد الغرف التجارية الصادق جلال الدين اتحاد الغرف من المشاركة في إصدار القرارات الاقتصادية الأخيرة.
وأكد أن ما صدر من قرارات اقتصادية أخيراً لم تتم فيه مشاورة اتحاد الغرف التجارية ولا إشراكه قبل إصدارها، وقطع جلال في تعميم صحفي عدم موافقتهم على قرار توحيد سعر الصرف، لافتاً إلى أنه سيعمل على زيادة المضاربة وتعميق الأزمة الاقتصادية المأزومة أصلاً ويقود البلاد سريعاً نحو الهاوية.
وقال: (لا أظن أن هنالك رجل أعمال أو ممثلاً لاتحاد أصحاب العمل أو اتحاد الغرف التجارية ينشد المصلحة العامة يشارك في إصدار مثل هكذا قرار).
وقطع بأن هذا القرار لا يتناسب تماماً مع الوضع القائم الآن بل بالعكس يزيده تعقيداً، وأوضح أن الملف الاقتصادي الآن لا أهداف ولا رؤية ولا مستقبل له.
وجدد عدم مشاركتهم في القرارات الأخيرة، مضيفاً أن الاتحاد كان سيساهم بآراء مختلفة تماماً تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني حال إشراكه ومشاورته في الأمر.
نقص حاد في النقد الأجنبي
وقال عميد كلية الاقتصاد السابق بجامعة أم درمان الإسلامية إن بنك السودان انتهج في الفترة السابقة سياسة سعر الصرف المرن المدار التي كان يعلن فيها سعره التأشيري ومن ثم يسمح للبنوك التجارية بانحرافات ضئيلة تحدد في مناشيره، وذلك ليحقق استقراراً في سعر الصرف ويقارب بين السعر التأشيري وسعر السوق الموازي، واعتمد بجانب هذه السياسة على آلية مزادات النقد الأجنبي ليرسل عبرها إشارات بأن بنك السودان يمتلك احتياطياً مقدراً من النقد الأجنبي. ولم يكن حجم النقد الذي طرح في المزادات على نحو مقدر ليؤثر في عرض النقد الأجنبي مقابل سوق موازٍ نشط جداً تجد فيه الحكومة نفسها (مخرجاً) عندما يحمى عليها (الوطيس).
وأبان أنه يحدث الآن تحول في سياسات بنك السودان في ما يتعلق بسياسات سعر الصرف، وهو التحول من نظام سعر الصرف المرن المدار إلى سعر الصرف الحر الذي سيترك للبنوك التجارية أمر تحديد سعر الصرف وفق آلية السوق وتدافع قوى العرض والطلب وهي مدخل، كما أعلن محافظ بنك السودان حزمة متكاملة من السياسات المستهدفة لتحسين قيمة العملية الوطنية ومن ثم استقرار سعر الصرف، جازماً في حديثه لـ (الانتباهة) أن البلاد غير مهيأة لإنفاذ سياسات التعويم، وقال: (الآن بذلك القدر نقول إن الوضع الاقتصادي غير مهيأ لتحرير سعر الصرف، فالبلاد تعاني من نقص حاد في حجم النقد الأجنبي، والدليل على ذلك الانفلات الذي يحدث في سعر الصرف، فأين هي قدرات النظام المصرفي التي ستعينه على إحداث وفرة في النقد الأجنبي، ومن ثم توظيف آلية السودان لتحسين قيمة الجنيه السوداني، أو على الأقل تحقيق استقرار في سعر الصرف). وتساءل قائلاً: (هل حدث حراك في القطاعات الإنتاجية خاصةً قطاع الصادر ومن ثم تحسن في الميزان التجاري، ليعلن هذه السياسة ويحسن فرص نجاحها؟ وهل هناك اتجاه لإطلاق حزمة من الحوافز تحفز المغتربين لتحويل مدخراتهم عبر القنوات الرسمية؟ وهل ستفلح لجنة الطوارئ الاقتصادية في تحقيق أهدافها، وبالتالي تقلل الهدر الناتج عن تهريب الذهب ويصدر عبر قنواته الرسمية، فتتحسن مساهمته في بناء احتياطي مقدر من النقد الأجنبي؟) وأضاف قائلاً: (إن لم يتحقق أيٍ من ذلك فستنزل سياسات التحرير وبالاً على قيمة العملة الوطنية والمستوى العام للأسعار والتكلفة الإنتاجية وتنافسية الصادر والميزان التجاري ومعاش الناس).
ويجزم الأستاذ بجامعة الخرطوم بروفيسور إبراهيم أونور بأن القرار لن يستمر طويلاً، لجهة أنه سيزيد سعر الدولار وبقية العملات الحرة إلى مستويات مرتفعة غير مسبوقة، وعندها سيضع البنك المركزى سياسة جديدة تقيد التعامل فى العملات الصعبة، وقال لـ (الانتباهة): (إن الذين تبنوا هذه السياسة في السابق كبرنامج إصلاح اقتصادي ليس لديهم فهم بخصوصه في إطاره النظري، وإنما تبنوه انصياعاً لإرادة صندوق النقد الدولى الذي يعلم سلفاً عدم جدوى الموضوع في بيئة اقتصادية وسياسية كبيئة السودان، ولكن ربما الحاجة للتمويل كانت سيدة الموقف بغض النظر عن تداعياتها الكارثية على المجتمع والاقتصاد القومى)، وأضاف اونور أنه في ظل الضعف الرقابي وآليات المتابعة للبنك المركزى هناك فرصة كبيرة حالياً بأن تستفيد البنوك من سياسة التعويم لتحقيق أرباح طائلة من عمليات البيع والشراء للعملات الحرة، وذلك من خلال رفع أسعار العملات الحرة بزعم أنها أسعار قوى العرض والطلب اليومية، مؤكداً أن من يسمون تجار سوق العملات في السابق هم البنوك أنفسها، حيث يستخدمون أفراداً من تجار العملات الأجنبية للبيع والشراء نيابةً عنهم. والآن بعد قرار بنك السودان الأخير فقد أعطاهم حقاً حصرياً في البيع والشراء للعملات، وتوقع أن تكون استراتيجتهم أولاً لتجنب المنافسة فيما بينهم ان تؤسس البنوك فيما بينها ما يعرف باحتكار القلة (oligopolistic power) للتنسيق فيما بينهم فى تحديد سعر البيع والشراء اليومي الذي بموجبه سيزيد سعر البيع بصورة مستمرة حتى تحقق أرباحاً مضمونةً. ولكن عند ارتفاع سعر الدولار لمستوى قياسي بعد فترة، سيتدخل بنك السودان لإيقاف سياسة التحرير والرجوع لسياسة التحكم من جديد، الأمر الذي سيزيد الوضع أكثر سوءاً نتيجة لظهور السوق السوداء مرةً أخرى، ولكن بعد تدهور قيمة الجنيه لمستوى متدن وفقدانها قوتها الشرائية، مشيراً إلى أنه بدلاً من سياسة التعويم التي ستفشل حتماً كان الأفضل استمرار البنك المركزي في سياسة التحرير المرن المدار من خلال استهداف تثبيت الفجوة بين السعر الحر الرسمي وسعر السوق السوداء، وفي نفس الوقت بناء احتياطي نقد أجنبي للبنك المركزي بتخصيص جزء من إيرادات الذهب عن طريق الشراء اليومي للذهب بالسعر العالمي، وطرح أدوات نقدية لامتصاص زيادة الكتلة النقدية نتيجة لشراء الذهب اليومى.
وقال الخبير الاقتصادي هيثم محمد فتحي: (إن قرار تعويم الجنيه طبيعي، وذلك لأنه في حال زيادة الطلب على الدولار في سوق النقد الأجنبي، فإن معدل سعر صرف الدولار يميل نحو الارتفاع، وإذا ما انخفض الطلب على الدولار فإن معدل سعر صرفه يميل نحو الانخفاض. ومعدل سعر صرف الدولار سوف يخضع لموجات الطلب والعرض، وترتفع وتنخفض وفقاً لقاعدة العرض والطلب).
الانتباهة
وقال: (ان القصد من القرار تقليل الضغط على البنك المركزي في ما يتعلق بحجم احتياطيات العملة الأجنبية فيه، لكن هذا العامل في الاقتصاد الكلي ليس مهماً كثيراً، وإنما الأهم أن انخفاض قيمة العملة الوطنية نتيجة التعويم سيؤدي إلى زيادة الصادرات. وفي هذه الحالة ومع تحرير سعر الصرف للعملات الأجنبية فإن المستهلك هو المتضرر الأول من ذلك، حيث يستورد السودان أكثر من 70% من إجمالي استهلاكه من جميع السلع والمنتجات، ومع قيام الحكومة بتعويم الجنيه فإن ذلك سوف يتسبب في موجات صعبة من ارتفاع الأسعار، وبالتبعية سوف ترتفع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية. ويعني ذلك أنه في حال زيادة الطلب على الدولار في سوق النقد الأجنبي، فإن معدل سعر صرف الدولار يميل نحو الارتفاع، وإذا ما انخفض الطلب على الدولار فإن معدل سعر صرفه يميل نحو الانخفاض. ومعدل سعر صرف الدولار سوف يخضع لموجات الطلب والعرض، وترتفع وتنخفض وفقاً لقاعدة العرض والطلب. فالمنتجات السودانية ستصبح أرخص كثيراً في الأسواق الخارجية (لأن الجنيه السوداني انخفضت قيمته كثيراً مقابل الدولار واليورو وغيرهما) ومن ثم تصبح أكثر تنافسية. وفي المقابل ستصبح الواردات أغلى كثيراً، ومن ثم سيصعب على المواطن السوداني شراء الكثير من السلع المستوردة لارتفاع أسعارها بشدة، وهذا بالتالي سيزيد استهلاك السلع المحلية، ويزيد النشاط الاقتصادي الداخلي. لكن اختلال ميزان الصادرات والواردات يؤدي غالباً إلى ما يسمى (تضاعف الطلب الجمعي)، وهو ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع معدلات التضخم، وذلك طبعاً بالحسابات النظرية وفق (كتب الاقتصاد). لكن يضاف لذلك أن نسبة (الاقتصاد الموازي) في السودان تكاد تساوي نسبة الاقتصاد الرسمي، مما يعني أن معدلات التضخم الحقيقية ستكون أعلى بكثير مما يسببه تضاعف الطلب الجمعي، وقد يعني ذلك مزيداً من الضغوط على الطبقات الفقيرة).