«1»
اشرتُ في الحلقة الفائتة إلى العداء المستحكم الذي مارسه نظام المؤتمر الوطني على الصحافة للدرجة التي وصف فيها وزير إعلامه الراحل “الزهاوي” الصحافة السودانية بـ”العاهرة” ومن ثم المصادرات الجماعية والفردية والإيقاف لفترات طويلة وملاحقة الأقلام والتضييق عليها… لقد شكلت الصحافة السودانية هاجساً مُرعباً للنظام، فهاجم الرئيس المخلوع بنفسه الصحف أكثر من مرة، وانتقد المسؤولين الحكوميين القائمين على إدارة الإعلام واتهمهم بالتساهل مع الصحف مما دفعه إلى تولي ملف الإعلام بنفسه، وتخلى عن مسؤولياته الكبرى وتفرغ لتأديب الصحف بعد أن طفح كيل النقد وكشف الفساد وهو يقول إن الصحف الآن أصبحت عدو الحكومة الأول، حتى أننا عندما تتناقش مع بعض ضباط الأمن الذين محاورتهم بالمنطق، يأتيك الرد: (والله الموضوع دا عند عمك ماسكو براهو)…!!..
«2»
الحقيقة التي يجب أن نخلص إليها وهي أن السلطة الحاكمة أيَّاً كانت لن ترضى عن الإعلام الحُر المستقل الذي يمارس سلطة الرقابة على أجهزة الحكومة ويُسلِّط الأضواء على أوجه القصور والخلل والتشوهات والتجاوزات والانحرافات… فإذا كان نظام المؤتمر الوطني أمعن في اتهام الأقلام الحرة بأنها يسارية شيوعية ملحدة تستهدف مشروعها السياسي وإسقاطه، فإن حكومة الثورة الآن تفعل الشيء نفسه مع أقلام كان مغضوب عليها ومُضيَّقٌ عليها ومُصنفة على أنها عدو النظام الأول، ومن المفارقات أن تلك الأقلام التي لم يكن نظام الإنقاذ راضياً عنها ويتهمها بتنفيذ أجندة الشيوعيين واليساريين الآن تتهمها أحزاب اليسار الحاكمة بأنها تنفذ أجندة “الكيزان”… لعمري أنها سذاجة، وكأن الناس لم يكونوا شهوداً…
«3»
كفى بالإعلام ذلاً ومهانة وقصور قامة إذا حاول استرضاء السلطة القائمة أو تماهى معها وسار في ركابها وائتمر بأمرها تحت مبررات حماية الثورة ، فإن فعل فإنما تخلى عن مهامه ووظيفته وواجبه المقدس في الرقابة وتسليط الضوء على أوجه القصور والممارسات الفاسدة والهدر والتبديد والسفه التي عادةً ما تمارسه أجهزة الحكم، وإن فعل فإنما يأمن المفسدون والفاشلون والمستهترون والمتسلطون طالما أن أجهزة الرقابة أغمضتت عينيها بحجة حماية الثورة… الثورة لا تحميها “الطبطبة” و”التطبيل” للمسؤولين والتستر على فسادهم وتجاوزاتهم وانحرافاتهم، وإنما كشف المتجاوزين والمنحرفين عن شعاراتها وأهدافها وغاياتها الكبرى، فليكن ذلك واضحاً في أذهان الصحافيين والإعلاميين إن أرادوا خيراً للثورة والبلاد وشعبها، وإلا فإن البحث عن المصالح الخاصة لا يحتاج إلى أيٍّ مما ذكرتُ…
«4»
كان مسؤولو النظام المخلوع يعتبرون أنفسهم أوصياء على دين الله وأن انتقادهم وكشف فسادهم والحديث عن تجاوزاتهم هو استهداف للإسلام… أما مسؤولو التحالف الحاكم اليوم يعتبرون أنفسهم رموز الثورة وأن انتقادهم وكشف تجاوزاتهم وفسادهم استهداف للثورة … الكل يبحث عن (درقة مُقدسة) ليحمي بها نفسه من الانتقادات وكشف ممارساته الفاسدة… يجب أن ألا يلتفت الصحافيون إلى التصنيفات والاتهامات بتنفيذ أجندة الغير، وليكن مستقراً وراسخاً في الأذهان إنما يصنعون من هذه الترهات (درقة) لاتقاء النقد وإبطال مفعوله والدفاع العاجز..
«5»
على مر العهود والأزمان تنتزع الصحافة حريتها من الأنظمة الشمولية والليبرالية لا تنتظر أن يتفضل عليها أحد بهامش من الحريات، وتمارس الصحافة سلطة الرقابة على الأجهزة الحكومية، تراقب أداء البرهان وحمدوك إلى أصغر مسؤول وتكتب ما يمليه الضمير والواجب والمسؤولية، هي سلطة موازية للسلطات الثلاث بل تُعتبر هي الأهم لما يقع على عاتقها صناعة الوعي والاستنارة وقيادة الرأي العام وشحذ الهمم نحو البناء الوطني، فلا تجعلوا منها تابعاً متماهياً مع الأنظمة تتستر على فسادها وفشلها وتُداهن طغاتها بمزاعم الحماية والدفاع عن الأجندة الوطنية والحفاظ على الاستقرار واعلموا أنه لا استقرار مع فساد ونهضة مع طغيان… اللهم هذا قسمي فيما أملك…
نبضة أخيرة:
ضع نفسك في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.
الانتباهة