«1»
العلماء والمفكرون في مجال الإعلام، قديماً وحديثاً حتى الآن انتجوا لنا “7” نظريات للإعلام، إلا أن هناك “4” منها تظل هي الأساس : (السلطوية، الليبرالية، المسؤولية الاجتماعية والشيوعية).. كل هذه النظريات الأساسية، وتلك التي جاءت بعدها أيضاً مثل نظريات : (المسؤولية الدولية، والتنموية، والمشاركة الديمقراطية)، كلها أشارت بصورة أو أخرى إلى الحساسية الشديدة التي تنشأ عادةً بين الإعلام والسلطة الحاكمة، كل المفكرين من أصحاب هذه النظريات الإعلامية أقروا وأكدوا وجود العداء السافر الذي يمارسه النظام السياسي ـ أيَّاً كان ـ تجاه النظام الإعلامي السائد، حتى السلطة الليبرالية الديمقراطية تمتلك حساسية شديدة إزاء النظام الإعلامي الحر، وهذا طبعاً لا يحتاج إلى تفسير لأن الإعلام في كل تلك النظريات السبعة ـ عدا النظريتين السلطوية والشيوعية ـ يمارس سلطة الرقابة على أداء الحكومة ويفضح تجاوزاتها وفسادها وانحرافها، أما النظام الإعلامي القائم على نظرية السلطة، والنظرية الشيوعية يكون تابعاً ذليلاً للنظام الحاكم يأتمر بأمره ويرضخ لرغباته وشهواته السلطوية…
«2»
بعد المقدمة أعلاه أقول إنه متى ما وُجد الإعلام توجد حساسية الحكومة تجاهه، وتزيد هذه الحساسية كلما زادت مساحة حرية الإعلام، ويصبح عداء السلطة الحاكمة إزاء الإعلام سافراً فاجراً كلما كان الإعلام حراً ومستقلاً عن السلطة الحاكمة التي تريد من الإعلام في كل الأحوال أن يكون تابعاً لها يمتدحها ويبرز إنجازاتها ويخفي سوءاتها ويتغافل عن فسادها وأوجه قصورها حتى لا يؤلب الشارع عليها بدعاوى “المحافظة على الأمن القومي” ، و” الاستقرار”، والاستهداف “الوهمي”… هكذا هي الحكومات بمختلف توجهاتها ونظرياتها السياسية القائمة عليها… لكن الإعلام الحر الذي يعي دوره الوطني ووظيفته ومسؤوليته تجاه شعبه ووطنه لا يرضخ ولا يستكين لمغريات السلطة ولا إرهابها ولا “استهبالها” ولا مبرراتها “الميكافلية” …
«3»
إذا اسقطنا الواقع أعلاه خلال الثلاثة عقود الماضية نجد أن النظام السياسي الذي اغتصب السلطة في يونيو 89 أوقف إصدار الصحف المستقلة وجعل النظام الإعلامي في السودان سلطوياً تابع له ، وبعد خمس سنوات سمح بإصدار صحف مستقلة وحاول إخضاع هذه الصحف والتسلط عليها إلا أنه فشل في ذلك ويُحمد للصحف المستقلة في السودان أنها انتزعت حرياتها من نظام شمولي قابض وكشفت كل مظاهر فساده المالي والإداري والأخلاقي ، وخطْل سياساته الفاشلة وخاضت معه معركة الحريات بضراوة ، ووصل الأمر في كشف الفساد إلى بيت الرئيس المخلوع حيث نشرت صحيفة “الصيحة” التي كنتُ رئيساً لهيئة تحريرها عملية فساد تورّط فيها شقيق البشير “عبدالله”، ووزير الصحة آنذاك أحمد بلال وهي ما عُرف بفساد مشروع توطين العلاج بالداخل، كما نشرت صحيفة التيار مقالات تناولت فيها تجاوزات حرم رئيس الجمهورية هذا على سبيل المثال، إلى جانب قضايا الفساد التي تتصل بشخصيات ومسؤولين دون أسرة الرئيس..
«4»
كانت الصحافة السودانية لا يخلو منها “مينشيت” يُفجر قضية من قضايا فساد النظام، وكانت النتيجة مصادرات وعمليات إيقاف متكررة لعدد من الصحف ، منها ما تجاوز إيقافها عامين (التيار)، ومنها ما تجاوز الستة أشهر(الصيحة)، على مرتين … وفي ليلة واحدة صادرت السلطات “14” صحيفة من المطبعة، هذا فضلاً عن المصادرات المتكررة الفردية والجماعية وإيقاف الكتاب وملاحقتهم جنائياً وسجنهم واعتقالاتهم واستدعائهم إلى مباني جهاز الأمن بصورة يومية ومزعجة تمدد لأكثر من ثماني ساعات في اليوم، بالإضافة إلى إزالة أكشاك ومكتبات بيع الصحف، ومع ذلك لم تذعن الصحف السودانية ولم تستجب لإرهاب السلطة الحاكمة ولا إغراءاتها…
وفي رأيي أن الصحافة السودانية بما لعبته من دور مهم في تشكيل الرأي العام وكشف فساد النظام وتنوير المواطنين بالممارسات الفاسدة والسياسات الفاشلة كان لها القدح المعلى في تعبئة الشارع وتهيئته لإسقاط النظام ،وقد أقر عدد من قادة الأحزاب بهذا الدور المتقدم للصحافة السودانية…
«5»
قبل أن تزيد السلطة من جرعة التضييق على الصحافة وتسندها إلى “جزارين” مهرة بجهاز الأمن، وصل الغضب بوزير الإعلام الأسبق الزهاوي إبراهيم مالك أن شبِّه الصحافة السودانية بـ”المومس” العاهرة، في حضرة الصحافيين ورؤساء التحرير، وكان أيضاً وزير الإعلام الأسبق أحمد بلال يبرر مجازر جهاز الأمن للصحافة ويشير ويلمح بأنها تستحق ما وجدت….(نواصل إن مدَّ الله في الآجال )… اللهم هذا قسمي فيما أملك…
نبضة أخيرة:
ضع نفسك في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك في كل حين.
الانتباهة