قراءة في قصة امرأة خيدع لمحمدعكاشة
________
بقلم الدكتور أبوالقاسم قور
_________
“ وتجول وحدك كما السحابة”
Wondering alone like a
cloud
لا أدرى ما علاقة بيت الشعر الإنجليزى هذا ، بقصة أمرأة خيدع – بتسكين- الياء. للقاص السودانى الشاب محمد عكاشة فهى امرأة فيعل!! أما صيغة المبالغة من خدع هى خداع وربما خيدع من صنع وصك محمد عكاشة وحده لم يسبقه عليها أحد قط.أمرأة خادع أمرأة طالق ، وأمرأة خداعة ، لكنها خيدع تبدو أكثر تجذراً ، وامعاناً فى التضليل، فتبدو كانها أمرأة لم تكن ، فهى كالماء (تحت التبن). أما التبن فهو نوع من أنواع العشب ينمو ويطفو بمكيدة وخدعة طبيعية متقنة فوق الماء ،فيحسبه السائر عشباً فوق أرض بلقع صلد جلد فإذا ما صار فوقه علا زلجاً عن حين غرة فيغوص فى الماء غرقاً حتى الموت. كذلك العرب ( البقارة) لهم وصف للمرأة اللعوب الخادع والغانية الفاتنة التى تجر الرجال مهالك والتى لا ينج من يسلك دروبها من عواقب وخيمة، فيقولون عنها ( أمرأة درنقاس). والدرنقاس حفرة ، يتم حفرها فى قلب الطريق فوق قارعته، خاصة تلك الطرقات الضيقة بين الأعشاب، والوديان ، والأشجار فتنهار تحت قدم عاليها ليصير هو سافلها.
(أمرأة خيدع)كتبها محمد عكاشة شاب سودانى من طين الشتات وطين السودان اللازب، عرفته قبل خروجه من السودان يعانى احتباس إبداعي، وقلق دائرى ( القلق الدائرى من وصف الكاتب) فهو (نوع من القلق المشوب بالترقب والاستعداد لعمل الأشياء ثم الإحساس بأن الأشياء لم تكتمل ولا يوجد من يهتم بانجازات الآخرين فى ظل الديناصورية السياسية) هذا القلق دفعه لقضم فترات التعليم قضباً متعبا سريعاً معسراً ،يمن وجهه شطر معهد الموسيقى والمسرح ، كان سارحاً فى محاضرات النقد يمارس عملية الترجيع الإبداعي، فعلمت أن أمثاله لم يخلقوا ليدرسوا النقد ثم وجدته بكثافة على صفحات الجرايد والصحف السيارة وأخيراً عض على (انتصاره·) بالنواجز ليحط بقجته بالقاهرة.
فى نهاية أبريل الماضى بدأت أحس أنفاسى وهو احساس عجيب.. أقول إحساس مخيف ومرعب أن تحس أنفاسك ، فتبدو الحياة صعبة مع كل نفس إنها عملية شحتفة. أى اننى بدأت أحس عملية التنفس التى تعلمت منذ الأولية فى حصة العلوم أنها عماية غير إرادية ، ثم ازدادت حرارة أنفاسى فبدأت أحس حرقاناً عند الزور تحت ( القريجمة ) بعد أن تكاثر على الكذابون، النمامون ، الزنماء من زنيم- فنصحنى صديق طبيب باجازة واستراحة، فحملت ( حوائى) وابنائى (محمد ، غالية ، ومنتصر) فجئت للقاهرة مستشفياً وفى اليوم الثانى لوصولى للقاهرة وفى السابع عشر من أبريل كانت قصة ( أمراة خيدع) معى ومن يومها وأنا مقطوع الرأس ، ومحتار ، ما بين الجنون والشبق فهل قامت قيامة محمد عكاشة. هل حقيقة أمطر عكاشة وحده كما السحابة
dose he winter alone like a cloud
مهمة صعبة تستدعى شهادة نقدية فى أزمنة الشهادات النقدية المجروحة من عهد المشروع الحضارى التايتنيكى الظلوطى الى أزمنة الخرطوم عاصمة للثقافة العربية و مسرح البقعة الخناف أزمنة العضاريض المتنطرين.
. . .( كان هذا هو لقائى الثالث بها وتلك كانت لقاءات عابرة.. قالت وهى تعض على شفتها السفلى من جهة الشمال للواقف قبالتها ورمش عينيها الواسعتين يغمضان أثناء ذلك ويرفان)
نقلة واحدة على رقعة القصة القصيرة كفيلة تحديد وجهة الكاتب..نسف الزمان والمكان. أعنى نسف المكان الموضوعى فالزمان شيئ نسبي ولا يمكننا أن نتخيل أو نحس أزمنة دون أمكنة ، كما يرى انشتاين ( لا يوجد مكان فارغ)، فهل مهمة الناقد تشمل إيجاد شروط منطقية لآثار ابداعية غير اقليديسية..احتفاء لغوى،
وإجتراح مفردات الاحتشاد الابداعى.
هذه قصة مبعثرة ، فوضى قصصية،، جسد ، أثر ابداعى مبعثر ، حالة من الحالات التى ناهزت أن تكون..هذه ليست أمرأة خيدع بل ( قصة خيدع) مثل هذه الآثار هى الاخرى خيدع ، فترى النقاد فيها سكارى وماهم بسكارى لكن للنقد أبوابه.
أقول هذه مهمة عسيرة لأنها بالغة التعقيد فالنقد يبحث عن مقولات منطقية موضوعية.. ألا قاتل الله النقد لماذا لم نعلن نهاية تاريخ النقد ،طالما اننا نعيش نهاية التاريخ نفسه.
أعنى بمفهوم فوكاياما فلسفى عميق نفسه قد أكتملت نظرية النقد بفترة ما بعد الحداثة والنماذج لماذا لا نعلن نهاية تاريخ النقد.
كلاسيكيا لابد من أن أؤسس روؤيتى…لابد من ايجاد مدخل نقدى منطقى لمقاربة هذا النص الفوضوى، ربما مات عكاشة – لا قدر ألله- وبقى النص، فظللت أرقبه عن قرب ،ظللت اتسلل إلى مخدعه الى علب سجائره، وعلب البيرة الفارغة فى نهار القاهرة الكسول.
أقود حوائى فى ليل القاهرة الخميلCairo soft night لأسمع ( انتصاره ). كنت أمارس الخيانة النقدية ، لكنها حلال.. قدر (برادلى) أنه جاء بعد موت شكسبير ، فاذا كان عكاشة موجوداً حيا يمارس حياته القاهرية لماذا نحاكم نصه عدماً ، كان كل شيئ مختلف، عكاشة داخل النص ليس الراوى.
أتهمته بحالة طيب صالحية ، تلك ( الشيمة) فخسرت تهمتى يوجد عكاشة الكاتب ، أما الراوى شخص آخر سقطت شيمة مصطفى سعيد،. تلك محنة لقد فشلت المكيدة الأولى ، فشلت عملية التسلل الى مخدع الكاتب عدت الى حوائى آدماً دون تفاحة.
قلت هذه قصة بها اخصاء ابداعى لابد من من وسيلة ، فطفقت ضارباً فى يباب الأرض والناقد مثل( الككو ) القرد، لا تغلبه شجرة ، ويعرف كيف يتسلق أشد الأشجار ملطاً وملاسة ، فيلف زيله هنا، ويعقل اظفار أصابعه وأرجله هناك ثم يقفز بين فرعين متأرجحا، ومتطوطحا حتى يقبض على فرع متين. وأنا أمارس هذه الشقلبة النقدية، بدأت أراجع صورة محمد عكاشة ، ابحث عن مرجعيته..كنت أمارس حالة ترتيب صورة أبستمولجية تاريخياً وصورة تقريبية لحالة محمد عكاشة، أفحص مقولاته. أبحث عن آخرين يمثلون مجموعته المرجعية ثم فجأة وجدتها.
كنت أفعل كل ذلك حتى لا أضطر الى مقارعة بنية النص ، فتلك هى آخر خطوطى النقدية ، فأنا ألعب نقديا بخطة ( كلاسيك ، تاريخ ، واقع ) ولا أمارس حالة المواجهات البنوية الا بعد الفشل. أنا من ذلك النوع الذى يحب أن يحكى ، ويتفشى نقدياً هى فرصة الوحيدة بعد الأربعين وأنا أعيش الحياة بأطراف حواسى، فظللت أكبر بهذه الخصيصة، يجب الا أضطر الى مقارعة البنية لأنها سوف تمسطر هذه القصة البديعة، ستحيلها إلى عمليات إحصاء ، وجرد ، وكنس، هذا أثر أبداعى كنز ربما أفادنى فى تفجير بحثى عن أثر انقلاب 29 يوليو 1989 على الفنانين والابداع فى السودان ، أوقل ذلك خارج المنفستو السياسى والتبديات الايدلوجيات، واستكشاف أزمة هذا الجيل، لابد من إيجاد مدخل لمقولات هذا الجيل ، كنت اراجع مقولات ، ومفردات عكاشة ثم فجأة وجدتها..وجدتها ها أنا أخرج أسمرا من غير شك أردد وجدتها.. وجدتها ، لقد وجدت ما نسميه (المقدمة المنطقية للاثر الابداعى )، نعم هناك دائما مقدمة منطقية لأى أثر ابداعى ، مهما تدثر فى الغموض وبلغ درجة منقطعة النظير فى ذلك مثل ضربات فرشاة فان جوخ ، أو ترميز جيمس جويس، أو بسمة الجوكندا، لابد من شيئ منطقى.. لقد وجدت المقدمة المنطقية فى قصة امرأة خيدع
أمرأة خيدع بين جدل الاسطاطيقا و غاية الابداع،،
هذه هى المقدمة المنطقية لقصة امرأة خيدع أنظر قول الكاتب:- ( عند فلافسفة الاسطاطيقا..لو أنك حددت فى فتاة بارعة الجمال شيئاً ما، محدداً أعجبك،أنفها جميل مثلاً أو خدها أسيل أو ان خصرها مياس و قوامها لادن.
لو حددت فهذا يعنى انتقاصاً من القيمة الكلية للجمال الكامن وراءها)
ورد ذلك على لسان الراوى ،كان الراوى متربصاً بفريسته، كان ينسج خيوطه، يحيك مؤامراته ، ولغته الجميله ثم بضربه واحده سقطت الفريسة ( بدا عليها شيئاً من الاضطراب أخفته بابتسامة عرفتها فيما بعد وغرور طاغ عذبنى زماناً ليس بالقصير.
ثم قالت وخدها محمر وعطرها يضوع نبيذاً نفاذاً وحضورها يملأ المكان.
(.. أنا لا افهم فى الفلسفة ، أفهم فى فنون الدعاية والترويج والإعلان، لكن أحساساً جميلاً انتابنى وحديثك حول مفهوم الجمال وفلاسفته، المتن الذى قلت يحتاج شروحاً وحواشى ومتون)
لم تكن تلك قصة بريئة كما كنت أحسب ، نعم ليست مجموعة من التبعثر الجسدى الابداعى،أو نوع من التعرى الحر إنها ايدلوجيا جمالية..إنه أول منفستو ابداعى لما يسمون أنفسهم بالجماليين.
لقد فقد الكاتب والقاص ايمانه السياسى والايدلوجي، ، كانت خطورة التحولات السياسية الكبرى التى طرأت على السودان منذ مجيئ حكومةالانقاذ أنها نسفت الايدلوجيا فوق رؤوس الفنانين والكتاب.
فنهاية القرن العشرين فيها قيامة ايدلوجيا السودان فالانقلاب العسكرى كرس لمكافحة وابعاد وتهميش المفكرين والمثقفين من الاسلاميين ذلك لضرورة تاكتيكية.
كما طوت سنة 1989 صفحات الدولة الشيوعية..كانت خسارة التنظير الماركسى فى الفن كبيرة ولازالت تشكل فراغاً وذهولاً أما على الصعيد المحلى فعندما عادت الحقيقة ، وخرج الدكتور الترابى من السجن ، أسقط فى يد الفنانين عندما علموا انهم قد تم ابعادهم بخطة ترابية ، وأن المرحلة التاكتيكية تستدعى عدم التعامل مع الفنانين الاسلاميين لانهم معروفين وصارخين، لج قلب الفنانين الإسلاميين وكفروا بالحزبية السياسية فبحثوا عن بديل، فتشبث هؤلاء بجماليتهم. كان أول الجماليين واول من تحدث فى هذا الشأن هو الأستاذ السر السيد وهو صديق مقرب للقاص عكاشة.
كان السر السيد مؤسس لحركة الاتجاه الاسلامى بمعهد الموسيقى والدراما لكنه تخلى عن الحركة فى مطلع الثمانينات ، وهو ناقد وكاتب واسع الاطلاع والمعرفة فبدأ يتحدث عن(حزب الجماليين) فهى دعوة لها جذورها فى تاريخ الفنون..أما عكاشة فلم أعرف له تاريخ إسلامى لكن علمت قد ضربت عليه دوائر مجموعات الحركة الفنية الاسلامية ومؤسساتها الثقافية، وهى كلها مجموعات لها تنظيمها السرى الذى يعمل على اقصاء كل مبدع حقيقى.
قصة امرأة خيدع تعبر عن أزمة جيل ما بعد الايدلوجيا ، جيل الازمة السياسية ، قصة بها كل التفريغ ، والفرقعات النفسية. فالقصة التى بدأت بمواجهة بين الاسطاطيقا و الغاية الجمالية تنفجر مرات بحرية حب ولذة لدرجة المسافدة (..كأنى لم أسافدها ذاك النهار وقد فعلت كل شيئ)!!
لم تكتف القصة بالتسلسل بل لم تدع له بالاً على الاطلاق ، فرس جامح، قلم يصوت لكنها تعود الى أزمنة مجهولة ( تركت لي الباب موارباً..تخيرت وقتاً مناسباً..وقت الضحى واختلاف الأرجل فى طلب الرزق ومكابدة ظروف الحياة الماحقة.
هى لا تخشى المجتمع كثيراً وتتعمد هزيمته بالضربات القاضية،، أوصدت الباب ورائى ، وجلست فى هدوء حيث لا حركة فى المكان ولا نأمه سوى صوت الماء يترقرق من جهة الحمام..ثم نكصت برهة إلى ماضى الذكريات).
…..
كان انطوان تشيخوف يكتب القصة بطول منقار الغراب فيقول له الناشر(اختصر يا بنى..أختصر يا بنى)!!!
طالت أم قصرت قصة (امراة خيدع) لكاتبها السودانى محمد عكاشة ستظل علامة فارقة فى تبديات( ابداع الشتات)وهذا أمر يحتاج لنظر كما يقول الازهريون. الشخصية المحورية فى هذه القصة فتاة جميلة لعوب فقط. نعم فقط حسناة لعوب ،بالطبع هذا أمر عادى فما أكثرهن فى إطار الدافعية الابداعيةلأن وجود فتاة حسناء وحده لا يكفي لصنع قصة، أقول ذلك بردوكسياً ليست هناك قصة فى قولك ( عض الكلب الولد)، فما أكثر تلك الكلاب التى ظلت تعض الناس عبر التاريخ لكن القصة هى أن ( يعض الولد الكلب) تلك هى المسألة.
لقد أنتهى زمان الدهشة والتطهير و( التقليد) منذ أحداث 11 نوفمبر، فلقد انهار خيال العالم ليبدأ عالم اسطرة التاريخ. أسطرة هذه الحسناء اللعوب هو ما يجعل من هذا الأثر شيئاً جديراً بالمقاربة (..هى امرأة غامضة ومتناقضة وسأحكى لكم عنها فصولاً أخرى.
عند أسوارها تكسرت النصال على النصال.
نهدت نحوى من فوق مكتبها ونصفها الأعلى منصوب وعينى مبصرة وقد أسندت رسغ يديها إلى سطح المنضدة الزجاجى وراحتيهما مضمومتين الى خديها الازهرين.. المتوردين والعطر ذاته ورائحة الجسد.
لم تقل شيئاً ولم تنبس ببنت شفة ولكن حركتها التى أتت أخبرت عن كثير.
تريثت قليلاً..حدجتنى بنظرة ثم أخرى وعادت تقول فى نصف استداره)
اللغة والجنس محوران ظاهران طغيا على سطح قصة ( أمرأة خيدع) انفجاران مدويان مضللان فى منظومة على رافعة جدل الاسطاطيقا و غاية الابداع. أما اللغة فلها مرجعيتها التاريخية كأساس جمالى تكوينى لدى الكاتب.
تاريخ الكاتب وسيرته الذاتية تحدثنا عن تربية دينية صوفية. علمت انه كان إمام المصلين فى خلوة أبيه وأما والده فهو عالم متفقه فى الدين واللغةويحمل درجة الدكتوراة فى اللغة.
نشأ الكاتب نشأة دينية يحفها حبور التصوف واشراق اللغة ودندنة المدائح،نشأة دينية صوفية محافظة،وهو ما نستشفه من شاعرية لغوية غنائية زهاء طاهرية[ii]
(ذاك المساء دلقت شيئاً من عطر أهدتنيه وهى تحتفى بى على نحو خاص.
هى قالت عيد ميلادى..سنوات طويلة عبرت من عمرى ومياه كثيرة جرت تحت الجسر ومضت على الرسم أحداث وأزمان. أحزان أفضت بى الى أحزان وعبرات خانقة والسعادة طيف يعبر ولا يقيم طويلاً وآلام و تجترح المسعى وطموحات مؤؤدة وصبوات ماجنة.
ثلاثة عقود ونصف تزيد ولا تنقص وأنا لا أنتبه لحظة الى ذاك الصبح الذى يوم مولدى.
لا احد ينتبه..ولا أمى ووالدى..لا أحد..حتى أنا نفسى لم انتبه الا يوم ذكرتنى به).
على هذا النحوتضرب اللغة بسلطتها على الحكايةبل كثيراً ما بدت اللغة مشروعاً جمالياً ، وفضاءاً احتفائياً تطريبيا يضج بالاصوات(..هى مثل الخريف وزخات المطر تمنح الحياة فصولها والربيع وتعمل على ارواء فسائل المحبة والرغبة المستزيدة..هى من بعد الغياب والزيجة والمشؤومة تطلب المحضن الدافيئ والقلب العطوف والحنان الدافق…)
أما الجنس فهو كل شيئ ضد ( أنا) التنشأة، لكأن الكاتب يتحدى بتمرد وعناد بنيته الفوقية، بل هذا واقعة.
هذا الإصرار ، والتكثيف الموغل فى الجنس ما هى الى عمليات نكوص ، وإسقاط ومواجهة للقيم.
الكاتب يتحدى (التابو) لذلك يكثف ويكثر ،بل يفرط فى تصوير الجنس بكل أنواعه ، ويشتط استفزازا، يخرج لسانه ، ليقول أنا حر وسأتحدث فى الممنوع (ذات مساء والدهر ينقض أيامنا عروة عروةوفى ليلة صاخبة وقعت عينى على احدى صويحباته.
دنوت منها وهى تعلم أن حكايته معها هى محل اعجابنا ومبلغ علمنا.
سألتها عن سر تعلق الفتيات به دون ان تغار الواحدة من الاخريات وهى شقية صفيقة اللسان وتطرب لمثل هذه الأمور. اجابتني أن من خصائصه الجاذبة حال الفعل يزأر مثل أسد هصور ينقض على فريسته بكامل قواه وان طاقته كانت من طاقة حصان أشم.
قالت وهى تدنو منى ورائحة جسدها تثيرنى إثارة كاملة وطريقتها تجذبنى الى هناك. قالت بأنه لا يمل ولا يشبع ويفعل مثنى وثلاث فى الليلة الواحدة ومرات عديدة كان يصحبنى وأخرى على فراش واحد).
(أمراة خيدع ) قصة بها انفجار باهظ التكاليف على كاتبها وقارئهافهى قصة ملقومة تنبيئ عن عواقب أوب Op.
لقد مضى زمن كثير فشل فيه الفكر السودانى فى منظومة المأسسة والتاريخ.
كان كل جيل يذهب الى ديناصورية وعمليات استبقاء خرافية ، أوتعمير كونى على كافة الاصعدة.
كانت كل حقبة سيا-ثقافية سودانية تكنس آثار ما قبلها من فترات أوتجبها بجشع غولى حتى صار السودان مكان بلا تاريخ ( أعنى المعنى الفلسفى للتاريخ)، عمق التاريخ، ميكنيزم التاريخ ،جدله الداخلى الذى يعمل على ترتيب الاشياء.
لقد تسيب التاريخ فى هذا الجزأ من العالم ليصبح ( السودان- المكان) فائضاً للعالم!! يقذف بمبدعيه الى الشتات فيكبرون وسط الأهوال، والغربة، تعجنهم الحياة عجناً ، بلا بواكى.هل نحن قوم بلا هامش يتحمل الخصائص الاستثنائية للمبدع السودانى.
ماذا يفيد نجاح الساسة فوق أرض بلقع بلا إبداع ،أرض بور ، أرض يباب.
هجرة الكتاب ،المبدعون ، الفنانون، شتاتهم المريع هو خراب ديار أم السودان بدءا من غربة الطيب صالح مروراً بعبد الله على ابراهيم ، ابراهيم محمد زين، الموصلى ، تماضر ، يحيى فضل الله، السمانى لوال وآخرين وآخرين ولا زالت القوافل تتوالى. كيف يحلم الساسة بدولة بلامجتمع.
لقد مضى زمن علينا نحن ( قبل الشتات)أن نكتشف وسيلة للتواصل مع ( الشتات).
ما أقوله ليس تخريصاً ، أو برطعة بل هو ما يقوم به المبدعون فى هذا القرن السبرنى.
أذكر فى عام 2000م تلقيت دعوة من البروفسير كنتلبو استاذ الادب بجامعة بنسلفانيا لحضور مؤتمر( ضد كل الصعاب ) Against All Odds الذى تم باسمرا عاصمة اريتريا برعاية الرئيس أفورقى.
كان المؤتمر يبحث أمر اللغة والادب فى الدولة الوليدة بعد انتصار الثورة ، لقد تداعى له كل الكتاب والادباء ، الاريتريون والافارقة وكافة العالم ليؤسس نمط ونظام للتواصل والتماسك. فمن يقف معى فى تصعيد مشروع مثل هذا. يمكن أن يأتى ( الشتات) ثم يعودوا الى مواقعهم.
لماذا تقيم الحكومة المؤتمرات فى كل شيئ ولا تقيم مؤتمراً واحداً لفنانى الشتات؟ !!
ها قد أنقضت اجازة الاستشفاء ولا زال الألم فى الزور سأعود الى الخرطوم حاملاً راية دعوة الى مؤتمر فنانى الشتات السودانى.. مفيش حد أحسن من حد.
لاحظ مفردة ( لا أحد ) فى السياق التاريخى للغربة لقاص الشتات السودانى محمد عكاشة.
إنها مكيدة ابداعية بارعة وهى أن يغطى الكاتب أثره بمفردات الجنس والصهيل الشعرى ليصنع نصاً مرئياً خادعاً لأثره الابداعى لكن ما خفى أعظم .
النص الخفى به تمرد ، انفجار ، ثورة ، لعنة ، فقدان كامل للايمان،ولسان حاله يقول ليس هناك أسوأ من الذى حدث ، ها أنا أعلن لكم حالتى (كضد) كل شيئ من السياسة الى الاخلاق ، والعادات، والدين،كل أنظمة التفكير.
إنها قصة تمور بكارثة لكنها ساخطة سياسياً (..ثلاثة عقود وعيتها مبهورا بشعار (لا) للمعونة وغيرها من شعارات فضفاضة لا تسمن ولا تغن من جوع والحرية شعار والديمقراطية والعدل أساس الحكم.
المذياع يسهب ويطنب اطناباً فى موسيقاه للتذكير ببيان هام. طفقت من فراشى أذرع البيت جيئة وذهابا واسائل النفس عمن هو الآتى)
……
خاتمة قولى ،وخلاصة محاورتى لحكاية( أمرأة خيدع) لكاتبها الشاب محمد عكاشة المقيم الآن بالقاهرة.
لقد كان انفعالى بها قوياً لدرجة فاقت فيها أطر التحسيس النقدى، والتؤدةلكن النقد أحياناً لا يخلو من انعصاب وجدانى فهو ابداع ، فالمعذرة للقاريئ الكريم على إفراطي، لقد كنت مفرطا ، ألم اقل قد عشت عمرى على اطراف حواسى ، وما اشبهنى ببطل مسرحية ( البابور جاز ) للكاتب والفيلسوف الاجتماعى السودانى ( حمدنالله عبدالقادر). لكن ستظل قصة ( أمرأة خيدع) مدخلاً جماليا لمعرفة تبديات العقدية والتحولات التاريخية والأدبية ل(لأبداع الشتات).
نعم الخوف من التاريخ ظاهرة عربية مستفحلة غير طارئة بل هى راكزة ليظل الفكر العربى متفلا بشفاهية بائنة، من هذا التاريخ الشفاهى تم افتراع تاريخ السودان افتراعاً جائراً . الفترة 1989- 2005 م فترة هامة فى تاريخ السودان الجيوبلوتكي.
كذلك لا يمكن فصل تاريخ الحركة الابداعية السودانية كجذر أصيل فى تاريخ الفكر السودانى من كل هذا التحولات الجيو بولتيكية.
فى هذه الفترة انهارت كل تخلقات البرجوازية السودانية ، والايدلوجية بدءا من الماركسية الى الاسلام السياسى ولكأن عام 1989 هو بداية نسف شيئ أو بداية تخلق شيئ جديد ، لأننا فى مرحلة تستدعى تحولات جذرية.
فى هذه الفترة وحدها لقد فر من السودان نحو 900 مبدع سودانى.مبدع محترف ،لا يمكن أن يكون ذلك حدثاً عارضاً .
القصة التى أعلنت تمرداً على القيم السودانية هى نوع من أنواع الاسقاط ،أزمة الخروج الكامل ، (قبلتنى طويلاً ورضابها عذب وأنفاسها تختلط بانفاسى اللاهثة المتقطعة.
توتر مشبوب..تنفض يدها لتتلمس من تحت القميص مواطن الاحساس والنشوى فى حالة هستيرية لاهبة وصوت مبحوح مثل فحيح الافعى) ،أو تقول القصة ( ورأسها فوق صدرى ، وعينى زائغة هناك عند مفرق النهدين النافرين وصدرها يغلى كالمرجل وأكاد أسمع له زمجرة ورجز ورعود).
ظل الكاتب يمارس لعبة شاعرية ودفق وجدانى فياض لدرجة ستسقط فيها عبارات ومفردات النقد الوصفى فى أى احداسيات أو دوال قاطعة، فهى قصة تفرض بناءنص نقدي إبداعي موازي ، هذه الشاعرية الحدسية لها احالاتها ومرجعياتها الصوفية ، لا حظ مفردة ( رجز ) وهناك قطع مشبوب بالشاعرية أنظر قوله (وأخرى تنتظرنى للاجابة حول الغياب. واجابتى وهى بعض العذاب وبعض الأمل والآمال سراب بقيعة يحسبه الظمآن).
كل ذلك على حساب القصة ، الحكاية. اللغة ، تجليات ، اشراق ، وحبور كله من أجل نص ناصع شعريا ، بأصوات وان جاء ذلك على حساب القصة. ألم أقل هذه ( قصة خيدع) ، أما حكاية الجنس فهى مطية و خدعة. إذن هذا كاتب آخر يستدعى البحث عن نص آخر ، فمن العبث أن يبحث القاص محمد عكاشة عن نهاية لقصة ( أمرأة خيدع) ، الحالة الابداعية ، الجمالية ان كانت برهة أو أكثر من ذلك ستظل مغلقة. لكنها ستظل قابلة للانفجار ، والانفتاح ، والاشراق. فهى أشبه بعلاقة الذات والمطلق ، علاقة غير موضوعية أو شروط منطقية ، شيئ أشبه بالجذب لذلك قصة ( امراة خيدع ) قصة بلا نهاية ، لأنها قصة بلا بداية ، بلامنطق . فكيف البحث عن نهاية منطقية لظاهرة غير منطقية أصلاً. . بفضل ذلك وذنبه فى نفس الوقت صار هذا النص اثرا ابداعيا نادرا ، نوع آخر من الآرءالابداعية يمكن أن سميه قصة ما بعد الحداثة أو نهاية النماذج Post modernism and beyond modalities .
انها الكتابة على طرف الأعصاب والسير على هامش العدم ، شيئ به نوع من ( عادل القصاص) ذلك القاص الذى يستطيع أن يكتم انفاسك ، ويقبض بتلابيبك روحك فتظل مشحتفاً ، والنص فى خطر وتوتر يقول (طق. طق. طق) ، الى آخر رمق ، لكنه مقل.
عادل القصاص قاص مقل جداً لكنه لابد أن يكون مقلا، ولا أدرى اين هو ؟، لقدت علمت مرة من المرات انه قد ( شتت) صيغة الفعل الماضى من ( شتات) فتعجبت ، قلت ربما خربت الدنيا ، أو ربما ( القاش فارق كسلا ) لأن السودان بحر وعادل سمكته فبأى مكيدة يحيا!!
والله كم من مظاليم ، لكن العين طويله واليد قصيرة ( بعدين الجماعة ديل يا استاذى الموصلى قد تخلو عنى منذ عام 1989م) فأنا فاشل سياسيا، رد الله غربتك فخانتك أصلا فى وجدان الشعب السودانى شاغرة الى الابد.
أعود مرة أخرى لهذه القصة التى كلفتنى كثيرا وها أنا أعود للسودان بلا استشفاء ، ومتشفياً لقد خدعنا القاص ، أو بالأحرى قد خدعنا هذا اللغوى المبين. فكيف تتم هذه الانتقالات المفاجأة ( ضحكت ثم عدت الى غرفتى وقد انفض السامر. سافرت كثيرآ..شرقاً وغربا ونفسى لا تألف مكانا عداها. خمسة امتار طولا وعرضا ومتران ونصف علوا والكتب تتطاول فى المقامات وتكاد تلامس السقف المرفوع).
ليس هناك أى بناء منطقى لغوى موضوعى ، لذلك أعيد القارئيء الكريم الى الحلقلة الأولى من هذه الدراسة التى اشرت فيها اننى لن أبحث مدخل بنيوى، أو أسعى لأ صادم النص بنيويا ، وهو ذات الفخ الذى سيقع فيه عدد من النقاد،لأن هذا اثر أقل ما يمكن وصفه به انه ( غير متعادل موضوعيا).بالطبع لم يعد ذلك عيباً فى عصرنا هذا ،لم تعد السمتريات اصلآ تليدا فى التفكير الانسانى منذ ظهور نسبية انشتاين ، وثورة الكوانتم ، وتكعيبية بيكاسو ، لقد تعجبنا كثيرا فى لوحة آكلى البطاطس ، والكرسى لفانج جوخ.
قصة غير متعادلة موضوعيا ، متوترة ، شيئ أشبه بالشعر ، فهى مكهربة قابلة للانفجارات فوق مثلث التابو العربى من الجنس ، الدين الى أخلاق.
انتهى
_____
أنظر الحلقة الأولى
[ii] – أعنى القاص السودانى زهاء الطاهر.فما كتب أجمل منه لغة ، فهو قاص ، صير اللغة بطلا فى قصصه
– أنا اقسم المشروع الابداعى فى السودان الى نمطين نمط( فنانو الشتات) و فنانو ( اللاشتات) ، وأرى ان المشروعين سيتكاملان لينتهيا الى ما أسميه بمدرسة ( الغربة).لكن ستظل مرحل النمطين هامة فى التكوين والجدل التاريخى للفكر السودانى. راجع مقالتى بعنوان ( عبد الله على ابراهيم زمكانية الغربة) ارشيف الصحافة لعام يوليو / أغسطس 2005م