غيبونة
صقر الجديان
ما تريد أن تعرفه عن صقر الجديان.
عندما اختارت الدولة صقر الجديان ليكون رمزاً للجمهورية في بداية السبعينيات وشطبت وأحالت وحيد القرن إلى الإستيداع، شعرت بحزن عميق لأن مشكلة وحيد القرن التي احالته للإستيداع لم تكن من صنعه بل كانت من صنع الفنان الذي صمم الشعار فظهر قبيحاً. لقد وضع المصمم رأس وحيد قرن على جسم حلوف.. بينما كان الأصوب أن يصممه كبروفايل ويجعله (سلويت) ولا يحاول أن يرسم له صورة واقعية.
ولكني راجعت نفسي وحمدت الله على إختيار الدولة لصقر الجديان لأنه من الطيور النادرة، وكتبت مقالاً نشرته جريدة الأيام وقررته وزارة التربية والتعليم من ضمن دروس المطالعة لطلاب الصف الأول للثانوي العام. ولكنه شطب من المقرر بعد ذلك ولا أعرف السبب ولا زلت أعتقد أنه من دروس التربية الوطنية أن يعرف النشء المعلومات المتعلقة برمز بلادهم.
التصميم الذي وقع عليه الإختيار صممه البروفيسور الراحل مجذوب احمد رباح من بين عدد من التصميمات تقدم بها فنانون آخرون.
كتبت الموضوع التالي:
في عام 1769م كانت هناك سفن عائدة من افريقيا محملة بشتى النفائس الأفريقية في طريقها لاوروبا. عشرات السفن تذهب لأفريقيا كل عام وتعود محملة بمثل هذه الخيرات، غير أن السفينة هذا العام كانت تحمل هدية قيمة لأمير الأورانج بعث بها إليه الهر هيمى عضو القضاء في رأس الرجاء الصالح مع تمنياته المشبعة بحرارة افريقيا علها تحوز رضاه. طائر افريقي غريب. غامض كقارته رفع للأمير الذي تقبل أوراق اعتماد الطائر بعد أن تأكد أنه خال من الأمراض الفتاكة. وكان من الجائز أن يمر هذا الحادث كغيره في العالم لولا أن عالم الحيوان (فسمير) لاحظ غرابة هذا الطائر الأفريقي. إنه طائر لا ينتمي لأي نوع من أنواع الطيور المعروفة فهو يقف على ارتفاع اربعة اقدام وله رأس صقر ولكن ارجله تشبه أرجل (الغرنوق) أو السمبرية. وأسرع هذا العالم يسجل هذه الملاحظة الفريدة ويتتبع بفضول علمي أخبار هذا الكشف العلمي العظيم، انهم في رأس الرجاء يسمونه القوس. وذلك لشكله الذي يشبه القوس المشدود بانحناءة جسمه للأمام مع ميل الرأس إلى الخلف في شئ من الغرور والاعتداد.
ولم ينقض خريف 1770م حتى شهدت انكلترا أول طائر من هذا النوع كان يملكه (المستر ريموند) ولكن المستر ريموند لم يكن يعلم أن فسمير قد سجل معلومات من قبل حتى مطلع عام 1804م عندما نشرت مذكرات فسمير باللغة الفرنسية والهولندية وتوالي العلماء في تدوين المعلومات عن هذا الطائر الأفريقي العجيب. وفي عام 1780م زعم المستر (لفن) أن مثل هذا الطائر موجود ببريطانيا وفي عام 1786م كان أسكوبولي أول من اعطى الطائر اسماً علمياً لكنه كان مجافياً للحقيقة لأنه أضافه لفصيلة الحبارى. واستمر العلماء في محاولات يائسة لتصنيف الطائر من ناحية علمية حتى أطل عام 1798م عندما أطلق كوفير عليه اسم (قوس الثعبان) باللاتيني (ساجيتارياس سيربنتتارياس) Sagittarius serpentarius وهو الإسم المعروف به الآن في الأوساط العلمية. وسبب التسمية مشتق من عادة الطائر في أكل الثعابين والتهامها.
ذلك هو صقر الجديان الشعار الرسمي لجمهوريتنا الديمقراطية- كطائر اسطوري أطل من خلف التاريخ ليتربع على ضميرنا القومي رمزاً للشجاعة والاقدام والاعتداد بالنفس. واليقظة التي هي مطلب الساعة.
في رشاش عام 1958م رأيته لأول مرة وانا في طريقي من لقاوة إلى أبي زبد في مديرية كردفان ووقفت اتفرج عليه جميلاً كأروع ما يكون. يغطي ريشه لون رمادي ينحدر حتى اطراف جناحيه فيتحول إلى لون اسود لامع.
واللون الرمادي يزحف نحو ذنبه فيغطي ريشتين طويلتين في منتصف الذنب ويتحول أيضاً إلى لون أسود في المؤخرة، صدره تغطيه طبقة من الريش المائل للبياض، عيناه حادتان لهما رموش سوداء طويلة كغير عادة الطيور تقع في منطقة خالية من الريش لها لون برتقالي فاقع، أرجله طويلة محمرة ذات مخالب سوداء والريش الأسود يغطيها حتى الركبة، منقاره أصفر يميل للخضرة أو أخضر يميل للصفار، وأهم ما يميزه تلك الريشات التي اكسبته الأسم الانجليزي (الطائر السكرتير) Secretary Bird كأنها ريشات كتابة يضعها أحد سكرتيري العصور الوسطى خلف أذنه.
كنت أرقبه يسير مبتعداً فتتكسر أعشاب السافنا تحت قدميه الطويلتين وحيداً يسير في اعتداد كأنه الغرور، وبين آن وآخر يخطف بصره نحونا كأنه قد أعد لكل شئ عدته، فرديته وذاتيته لا تخطئهما العين فقلما تجد اثنين يسيران بالقرب من بعضهما، ومنذ ذلك الوقت اعجبت به.
المسافرون يقولون إن صقر الجديان من أقوى الطيور الجارحة ومن اسرعها يطير بسرعة فائقة ويطارد الغزلان فيلحق بها، وبنقرات من منقاره الحاد على رأسها تقع الغزلان فريسة له، ولهذا سمي صقر الجديان. ولكن هذا زعم ضخمه الخيال الشعبي من فرط إعجاب الناس به ولا مكان له من الحقيقة.
المعروف علمياً عنه إنه يلتهم الثعابين بأنواعها المختلفة السامة وغير السامة ويقضي على الجرذان والفئران والسناجب، وقد فحصت في عام 1965 حوصلة ومعدات طيور من هذا النوع ولم أجد أثراً لبقايا حيوان أكبر من الفأر العادي، وإن كان قد عثرت على بقايا ثعبان من نوع (أبو سعيفة) وهو ثعبان سام ولكن لا خطر له.
وفي رأس الرجا وعند تحليل العينات التي وجدت بحوصلة انثى أحد هذه الطيور أسفر التحليل عن وجود بقايا سلحفاة برية وثماني حرباءات واثني عشرة ضباً وثلاث ضفادع وثعبان واحد من النوع السام الذي يسمى بالنوامة أو الدقر وجرادتين وبقايا طائرين من نوع الفرة وبقايا حيوانات أخرى غير واضحة المعالم.
وهو يضرب ضحيته برجله قبل أن ينقرها بمنقاره، وفي حالة الهجوم على الثعابين فإنه يفرد جناحيه كدرقة كبيرة وذلك لحماية نفسه من لدغة الثعابين ولهذا فقد أمكن ترويضه وحفظه في المنازل وذلك لفائدته في القضاء على الثعابين والفئران.
وصقر الجديان طائر أفريقي مائة بالمائة، إنه لا يوجد في أي مكان آخر خارج افريقيا. إلا أن العالم (ملن أدواردز) عثر على متحجرات في طبقات الميوسين السفلي في فرنسا لصقر الجديان مما يدل على أنه ينحدر من أصل بعيد وقائم بذاته وهو ليس نتيجة تهجين أحد الأحياء كالصقور مثلاً لتعطي هذا النوع. وهذا هو السبب الذي جعله يحتل مركزاً منفصلاً عن بقية الصقور في التصنيف العلمي لمملكة الحيوان.
في افريقيا يوجد في كل المناطق الجافة من غرب افريقيا وأثيوبيا والصومال وجنوب افريقيا وروديسيا. أما في السودان فإنه يوجد في مديرية كردفان ودارفور والنيل الأزرق وبحر الغزال كما أن العالم (فون فيلفن) قد سجل في مدوناته أنه قد عثر على بعض هذه الطيور وهي تبني اعشاشها في مكان آمن في مدينة الخرطوم.
في شهري يونيو و يوليو من كل عام يدخل الذكور في حروب شديدة وذلك للفوز بالإناث. والمنتصر منها يأخذ أنثاه إلى ربوة عالية حوالي 50 أو 60 قدماً فوق الأشجار لبناء عشهما الذي يبني بالعيدان والأوراق على قاعدة من الطين مع فرشه بالريش وقطع الصوف والقطع الناعمة.
وفي زمن التلقيح يكون الذكر شرساً للغاية فهو يحكم مساحة معينة لا يقربها صقر آخر يذود عنها ببسالة وقوة ويقوم بتغذية الأنثى التي ترقد على بيضتين اثنتين لونهما أبيض تغطيهما في بعض الأحايين بقع بنية اللون. وبعد ستة أسابيع يفقس البيض وتخرج الصغار ويتولى الذكور رعايتها حتى يقوى عودها وهذا يأخذ عادة فترة طويلة تمتد إلى ستة أشهر. ولهذا فهو طائر نادر تجب على كل الدول حمايته ورعايته.
وفي السودان نجد أن صقر الجديان محمي بنص قانون وقاية الحيوانات البرية المعدل سنة 1969 ويقع في الجدول الثاني التي تحكمه الفقرة التالية:
(لا يجوز لأحد أن يصيد أو يقتل أو يمسك أي حيوان من الحيوانات أو يجمع بيض أي نوع من الطيور المدرجة في الجدول الأول من هذا القانون إلا بإذن كتابي خاص من وزير الموارد الطبيعية والتنمية الريفية. لا يعطى هذا التصريح إلا للأغراض العلمية الهامة أو الإدارية اللازمة). هكذا كان القانون.
ولذلك فإختياره كان موفقاً ، خير ألف مرة من الشعار المقترح الذي كان يمثل قوى الشعب العامل مثل عجلة مصنع وقندول عيش وقلم وبرجل ومسطرة وغيرها.